أسرفت (إسرائيل) خلال الأيام الماضية في إطلاق جملة من التهديدات غير المعهودة لمحور المقاومة بصفة عامة وإيران بصفة خاصة، وذلك على لسان عدة قادة صهاينة أبرزهم نتنياهو وغالانت ورئيس الأركان هاليفي ورئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساهي هنغبي، ذلك الأخير أعلن في مؤتمر هرتسيليا للأمن القومي الإسرائيلي أنه ينبغي القيام بحملة شبيهة لما حدث في عام 1981، حينما قصف بيغن مفاعل تموز العراقي، وعام 2006 حينما شن أولمرت حملته ضد لبنان، ثم عام 2008 حينما شن حملته ضد غزة، في حين صرح الآخرون أن لديهم القدرة على ضرب إيران.
والملاحظ في هذه التهديدات أنها تأتي في سياق إظهار القدرة على ضرب محور المقاومة وعلى رأسه الجمهورية الإسلامية، بِعَدِّها أساس هذا المحور والقوة الرئيسة فيه، على الرغم من أن الخطاب الإعلامي الصهيوني دأب خلال السنوات الماضية على تبني خطاب دفاعي يرتكز على أساس التهديد الوجودي للكيان الصهيوني، وكان عادةً ما يواكب تصريحات لقادة من المحور حول مشروع المحور في القضاء على دولة الاحتلال، أو يواكب وتيرة عمل المفاعلات الذرية الإيرانية وقدرتها على تجاوز نسب محددة في تخصيب اليورانيوم تمثل بالنسبة إلى (إسرائيل) خطًا أحمر.
التهديدات الإسرائيلية المتلاحقة ربما تأتي في سياق تهيئة الرأي العام العالمي والإقليمي لقبول عزم (إسرائيل) المزعوم لضرب القدرة الإيرانية المتصاعدة لإنتاج السلاح النووي، وهي محاولة في السياق ذاته للخروج من العباءة الأمريكية في التعامل مع الملف النووي الإيراني على اعتبار أن هناك تباينًا أصبح يتسع مع الوقت بين الموقف الأمريكي والإسرائيلي في التعامل مع هذا الملف، إذ لا تزال الولايات المتحدة تحبذ العمل بالطرق الدبلوماسية وصولًا إلى اتفاق جديد، في حين ترى الحكومة الإسرائيلية الحالية أن الحل العسكري هو الأجدى باعتبار أن الدبلوماسية لم تؤدِّ إلا إلى تطور القدرة الإيرانية من خلال استغلال إيران عامل الوقت.
وربما تحاول (إسرائيل) من خلال إطلاق جملة التهديدات للمحور الاستعداد لإنتاج "حرب أيام ستة" جديدة، أو ما يطلق عليه بالعبرية "شيشت هياميم"، تلك الحرب التي سماها العرب النكسة التي ما زلنا نعيش آثارها حتى اليوم من تدمير السمعة العسكرية العربية وعلو كعب (إسرائيل) في المنطقة، والتعامل معها عالميًّا على أنها قوة إقليمية مهيمنة بعد أن كان وجودها في نظر العالم على المحك قبل يوم واحد من تاريخ 5 يونيو 1967م.
(إسرائيل) تشعر أنها بحاجة ماسة اليوم إلى حرب شبيهة تعمل على تثبيت جذورها مرة أخرى ربما لخمسين سنة قادمة أو أكثر، ولذلك تأتي التصريحات الصهيونية التي تشير إلى أن (إسرائيل) مقبلة على حرب كبيرة وصعبة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل (إسرائيل) قادرة على إنتاج "حرب ستة أيام" جديدة، بمعنى حرب قصيرة خاطفة وحاسمة كما كانت حرب عام 1967م؟
أظن أن ذلك صعب للغاية على (إسرائيل) في الوقت الحالي، فلا الجيوش هي الجيوش، ولا القيادات هي القيادات، ولا التكتيكات العسكرية هي ذاتها، ولا العقيدة القتالية التي يتمتع بها الفريقان المتقابلان هي العقيدة ذاتها.
فحرب الأيام الستة التي حسمتها (إسرائيل) بضربة جوية لا يمكن أن تحسم حربًا في 2023 بالطريقة ذاتها، إذ إن سلاح الجو الصهيوني يقصف غزة ولبنان وسوريا منذ 2006، وحتى اللحظة لم يحقق أي حسم لأي معركة، وفي كل مرة كانت قوة الردع الإسرائيلي تتآكل أكثر، أما بالنسبة إلى الجيوش العربية التي استغلت (إسرائيل) في الـ67 انتشارها الكثيف، وحركتها الثقيلة، فتصيدتها بطائرات الهليكوبتر بعد أن كشفت غطاءها الجوي بضرب سلاح الجو المصري والسوري، وأصبحت لقمة سائغة سهلة المنال لم تعد كما كانت، فليس هناك جيوش ظاهرة مكشوفة ذات حركة ثقيلة، وإنما مقاومة مسلحة مخفية سريعة الحركة ومرنة التواصل قوية الضربات.
أما العقيدة القتالية فقد انعكست باتجاه تمتع المقاتل لدى محور المقاومة عمومًا والفلسطيني خصوصًا بعقيدة قتالية راسخة، جعلت منه مقاتلًا لا يعرف طريق التراجع والاستسلام، ويُقبل على الشهادة معتزًّا مفتخرًّا، ولم يعد ذلك الجندي الذي يبتر سبابته للتهرب من الجندية، في المقابل أصبح الجندي الصهيوني يعتريه ضعف وهوان واضح، ولا يمكن له القتال إلا إذا توفرت له حماية مؤكدة تحميه من الإصابة والقتل؛ الأمر الذي جعل منه جنديًّا هزيلًا غير أهل للحرب البرية، وهذا ما صرح به عدد من قادة جيش الاحتلال.
الأمر الأهم في هذا السياق أن (إسرائيل) خلال عشرين جولة صراع منذ عام 2002 حتى اللحظة لم تستطع حسم المعركة مع فصائل المقاومة، فكيف لها أن تحسمها الآن مع رأس محور المقاومة، وهي الجمهورية الإسلامية بكل القدرات والإمكانات التي لديها؟ بمعنى أن (إسرائيل) التي لم تقدر على حسم المعركة مع حلفاء إيران المدعوين منها، والتي تعُدُّهم (إسرائيل) أذرع لها، كيف لها أن تحسم المعركة مع القوة الأكبر والأكثر تأثيرًا؟
كل ما سبق يدفعنا إلى التفكير بأن (إسرائيل) ربما قررت أن تقوم بـ"حرب ستة أيام" جديدة من خلال استخدام سلاح غير تقليدي آن أوان استخدامه لحسم المعركة مرة أخرى لخمسين عامًا قادمة وربما أكثر، وإذا ما أقدمت (إسرائيل) على استخدام سلاحها غير التقليدي، فهذا يعني أنها وصلت إلى قناعة راسخة بأن وجودها مهدد وعلى المحك كما كان عشية حرب 1967، ولكن هل يمكن لسلاحها غير التقليدي -لو استخدم- حسم المعركة فعلًا، وهل هي قادرة على تحمل تبعية استخدام هذا السلاح إذا ما امتصت إيران الضربة؟