سجال الانتصار والهزيمة لا ينقطع في التاريخ الفلسطيني الطويل، فلن يكون، والحالة هذه، غائباً عن عملية العدوّ الأخيرة على مخيم جنين في 3 تموز/ يوليو، ولو اختلفنا في تقييم نتائج هذه المعركة وفي توقّع مآلاتها القريبة والبعيدة، إذ إنّ في ذلك ضرباً من التنبؤ الذي لا بدّ وأن تحايثه دائماً دواعي الخطأ، فهل ثمّة مجال للاختلاف في كون هذه العملية كانت فشلاً إسرائيليّاً مؤكّداً؟!
يمكن لنا اعتماد قاعدة مشتركة للنقاش وهي الأهداف الإسرائيلية من العملية، بغض النظر عن الفعل الفلسطيني فيها، طالما أنّ الإسرائيلي هو الأقوى، بما لا يتيح لنا أصلاً أن نقيس موازين القوى، إذ هي منعدمة تماماً. الفشل الإسرائيلي في تفكيك الحالة في مخيّم جنين واضح، يبقى بعد ذلك، ماذا فعل دون هذا الهدف؟ فإن كان القتل المجرّد مقياساً للنجاح، فقد قتل في جنين في عمليات أقصر أكثر ممّا قتل في هذه العملية، ثمّ إنّ ما اقترفه من قتل استطاعه بسلاح طيرانه، فما حاجته لأكثر من ألف جنديّ، معزّزين بوحدات النخبة والقوّات الخاصّة وفرق الاستخبارات ومحميّين بسلاحيّ الطيران والمدرّعات؟ ثمّ، وهو الأهمّ، أنه لم يصب الجسد الأساس لحالة المقاومة في المخيم بالقتل أو الاعتقال، بمعنى أنّ الجسد بكلّيته تمكن من الإفلات من الحملة.
لا تُكسب المعارك فقط بالأداء الملحمي، وإنما تُكسب بالأهداف المقرّرة للمعركة، أو التني تناسب ظروف المعركة. مثلاً الأداء الملحمي للمقاومة في غزّة في حرب 2014، منح المقاومة وقتها صوراً كثيرة من الممكن البرهنة بها على نوع من الانتصار، لكنها فعلت أكثر من ذلك، وهي تشير إلى طبائع الحرب الإسرائيلية العاجزة عن الاستثمار في السلاح البرّي، ثمّ وفّرت للفلسطينيين رافعة معنوية، ساهمت في التعديل على الوقائع السياسية والاجتماعية في العموم الفلسطيني، لا في قطاع غزّة، ميدان المعركة، فحسب. وذلك بالإضافة لخسائر العدوّ في تلك المعركة، التي تقول المصادر إنها تجاوزت 72 قتيلاً و720 جريحاً.
القياس في هذا النوع من المعارك (لأننا لا نتحدث فقط عن اختلال فادح في ميزان القوّة، ولكن عن شعب أعزل بالكامل يواجه قوّة احتلال غاشمة)، لا يكون رياضيّاً، ومن ثمّ، ورغم القيمة الجوهرية لكلّ فلسطيني، فإنّ الفارق الهائل في القوّة، والذي يستند فيه العدوّ لكثافة النيران، لا إلى قتال جنديّ مقابل جنديّ، من شأنه أن يجعل عدد الشهداء الفلسطينيين 2147 شهيداً فضلاً عن أكثر من عشرة آلاف جريح. لكن بعد ذلك كلّه، بعد آلاف الطلعات الجوية على شريط صغير مكشوف يُدعى قطاع غزّة، هل حسم العدوّ شيئاً؟ الجواب قطعاً: "لا".
كيف نحسب إذن نتائج معاركنا، طالما أنّ العدوّ يكبّدنا خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات؟!
ثمّة مقدّمات لا بدّ منها إزاء هذا السؤال، أقربها للبداهة هي أنّنا لا نقاتل هذا العدوّ إلا ونحن نعلم أنّه قادر على أن يوقع بنا من الخسائر أكثر مما يوقع في العادة أصلاً. من هذا الذي كان يشكّ في أن طيرانه قادر على تسوية مدننا ومخيماتنا وقرانا بالأرض؟ القوى المتكافئة في الحروب العظمى؛ ألا تفعل ببعضها مثل هذا وأكثر؟ وهي يفترض بها أنّها تملك من أسلحة الدفاع ما لا نملك؟ في صراع مفروض علينا كهذا، ليس لنا إذن، أن ننتظر لنتكافأ في القوى بحيث نوقع فيه ما يوقع فينا. فلا كبير معنى لعرض نتيجة من القتل والدمار، يعرفها صبيان الفلسطينيين سلفاً.
سيقال حينئذ: هل مجرد بقاء الجسد الأساس لحالة المقاومة، هو النتيجة التي تحسب لنا نجاحاً؟ والجواب حتماً: "نعم"، لا بالمعنى السياسي الضيق، من قبيل فليحصل ما يحصل ولكن فليبق هذا الفصيل أو ذاك التنظيم، وإنّما بالمعنى العسكري في حروب العصابات، التي يفترض فيها أن تحافظ المقاومة على طول الخطّ على جسدها الرئيس، وهو أمر بالنظر إلى طبائع الصراع في فلسطين، ولا سيما في الضفّة الغربية، صعب المنال، ولكن تمكّن منه المقاومون في جنين في هذه المعركة، بغضّ النظر عن التكتيك الذي استخدموه لتحقيق هذا الغرض. فلو أنّ العدوّ وصل المخيم بهذا العدد والعتاد، ثمّ انسحب دون إطلاق رصاصة واحدة؛ لكان هذا فشلاً له، بعد الدعاية الضخمة التي سبق بها حملته، ورافقها بها، بالإضافة لكلامه عن استعداده لها سنة من التدريب والتخطيط.
الأهمّ من ذلك، موقع كلّ معركة في الصراع الطويل. لا يمكن أن نحدّد أهدافنا جيداً ولا أن نقيّم أداءنا جيداً، دون أن ننظر إلى حقيقة هذا الصراع، من كونه طويلاً ومعقّداً، وأنّ أسباب قوّة العدوّ فيه لا تكاد تعدّ ولا تحصى، وفي مقابل ذلك أسباب ضعفنا. فيكون أيّ كسر للوقائع التي أوجدها العدو، وأيّ إفشال لسياساته نجاحاً لنا، فمجرّد تجدّد المقاومة ثقافة وروحاً وإرادة في واقع كالضفّة الغربية هو نجاح، حين النظر إلى رؤى العدوّ الكلّية والجزئيّة، ومن ذلك سعيه إلى طمس إرادة المواجهة لدى الفلسطيني تماماً، فكيف إذا تجلّت هذه الإرادة فعلاً متحدّياً في بيئة مهندسة بالكامل لقطع الطريق على أيّ فعل مقاوم؟! هنا الضرب في الرؤى الكلّيّة، ثمّ في السياسات الجزئيّة التي تريد صياغة الفلسطيني في الضفّة جسراً من الهدوء لتمدّد المشروع الاستعماري الصهيوني في كلّ الاتجاهات.
بعد ذلك يمكن النظر في احتمالات التحوّل الاجتماعي والسياسي الناجمة عن فشل صهيوني كهذا في عملية جنين الأخيرة. هذا النوع من التحوّلات بطيء بسبب ثقل المجتمعات التي تؤثّر فيها عوامل لا يمكن حصرها ويصعب رصد كثير منها. إلا أنّ ما سبق قوله، يمكن اختصاره بأنّ المقاومة هدف في ذاتها، في صراع من نوع الصراع الذي في فلسطين، طالما أنّه لا يمكن حسم الصراع في فلسطين في آماد منظورة بالفعل الذاتي، ومن ثمّ للمقاومة غايات أخرى، وهو ما يجعل تجدّد المقاومة دائماً إنجازاً بالضرورة.