نظمت مجموعة الحوار الفلسطيني في إسطنبول، مساء يوم الخميس، محاضرة عبر البث المباشر من خلال المنصات الإعلامية للمجموعة على مواقع التواصل الاجتماعي، عن فلسطينيي البارغواي.
وأدار المحاضرة الإعلامي الفلسطيني عبد الله الجمل، حيث تم استضافة عالمة الأنثروبولوجيا هديل عسلي، المختصة في الشأن الفلسطيني، والمهتمة بأوضاع الفلسطينيين في دولة البارغواي.
تسلسل تاريخي
في العام 1948، وبعد احتلال فلسطين تم تهجير نحو مليون فلسطيني، تلاهم 200 ألف بعد حرب 1967، وفي آخر إحصائية للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، أعلن أن عدد الفلسطينيين تضاعف نحو 10 مرات منذ النكبة عام 1948، ويُقدر اليوم بحوالي 14 مليونا و300 ألف، بينهم حوالي 6 ملايين و400 ألف لاجئ.
العالمة عسلي نوهت إلى أن الوجود الفلسطيني في البارغواي يعود إلى العام 1976، بعد النكسة، واحتلال قطاع غزة، حيث كان الوصول الفلسطيني للبارغواي بناءً على خطة إسرائيلية محكمة، موضحة قلة الوجود الفلسطيني في البارغواي، والغالبية الفلسطينية في دولة تشيلي بأمريكا الجنوبية.
وأشارت عسلي إلى أن الكابينت الإسرائيلي المكون من مسؤولين سياسيين رفيعين ومندوبين عن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية لتولي شؤون المناطق التي احتلتها "إسرائيل" عام 1967، قرر بناءً على تصاعد أعمال المقاومة الشعبية في قطاع غزة، وتشكيل خطرًا ديموغرافيًا على دولة الاحتلال، إلى تهجير سكان قطاع غزة إلى أماكن أخرى، وكانت من ضمنها دولة البارغواي.
العالمة عسلي أفادت إلى خطة قادة "إسرائيل" بتهجير 50 ألف فلسطيني إلى بلدة تقام خصيصًا لهم في منطقة العريش بشمال سيناء، ومن ثم تهجير 60 ألف إلى دولة باراغواي في أميركا الجنوبية.
وتابعت: "بعد ذلك وافقت اللجنة على أن تمول إسرائيل كل مصاريف السفر، ودفع 100 دولار لكل شخص لمصاريف المعيشة في البداية، ودفع 33 دولارًا لحكومة باراجواي عن كل شخص، ودفع 350 ألف دولار مع توقيع الاتفاق عن 10 آلاف شخص كدفعة أولية".
وأوضحت العالمة عسلي أن خطة الاحتلال لم تنجح، وإنما انتهت بمأساة، من بين الـ 60 ألفًا الذين أرادت "إسرائيل" تهجيرهم، هاجر 30 فقط، وبحسب الشهادات، وجدوا أنفسهم بعد وقت قصير بلا مال ولا وثائق سفر، وهو ما عرضهم للعديد من المخاطر الكبيرة، وانسحب جزء كبير منهم إلى دولة البرازيل.
معاناة مع الحقوق والوجود
ركز الاحتلال على عملية تهجير سكان قطاع غزة إلى دولة البارغواي، كان هدف الاحتلال وفقا لعسلي تفريغ قطاع غزة من الكادر البشري المقاوم لوجود الاحتلال، والرافض للأمر الواقع الذي تعرضت له فلسطين في حينها.
وأكدت عسلي غياب العدالة السياسية لجميع الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم إلى البارغواي، حيث تعرضوا لكذبة كبيرة، وعملية تهجير إلى المجهول، كان الهدف منها تصفيتهم وإنهاء وجودهم.
الفلسطيني محمود عوض يوسف، مُهجر من مدينة يافا المحتلة عام 1948، وهاجرت عائلته إلى مخيم المغازي للاجئين وسط قطاع غزة، ثم تم ترحيلهم إلى منطقة القناطر بجمهورية مصر، حيث وُلد فيها.
تعرض محمود كما غيره من مئات الفلسطينيين إلى التهجير المجحف إلى دولة البارغواي، عندما وصل عمره إلى 19 عاما، حيث تلقى تعليمه في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا".
خرج شقيق محمود للعمل في ألمانيا، وعُرض على محمود فرصة عمل في البرازيل، حيث غادر عام 1969 متوجها إلى البرازيل، وعند سفرهم تم ترحيلهم إلى دولة البارغواي، حيث كانت الأوضاح صعبة جدا، في دولة لا يملكون بها المال، ولا يجيدون الحديث بلغة سكانها، ولا يستطيعون العمل بها.
مأساة الاعتقال
في شهر مايو عام 1970، وبعد أن اشتدت الحياة صعوبة على محمود ورفاقه، توجه محمود برفقة طلال الدماسي الذي تم ترحيله قصرا من الاحتلال إلى البارغواي، وصديقهم خالد، إلى السفارة الإسرائيلية في العاصمة أسينسون، وطلبوا مقابلة السفير من أجل توضيح الوضع المعيشي الصعب الذي يعيشون به، وخلال تواجدهم تمت عملية إطلاق نار، وتم على إثرها اعتقال الفلسطينيين الثلاثة.
وتوضح العالمة عسلي أنه تم الحكم على الشباب الثلاثة بالسجن لمدة 13 عاما، تعرضوا خلالها لعدة محاولات اغتيال من قبل الموساد الإسرائيلي، واضطرت حكومة البارغواي إلى عزلهم، ووضعهم في أوضاع أسر قاسية لمدة تزيد عن 8 أعوام.
عمل محمود وطلال خلال فترة أسرهم بمهنة النجارة في السجن، واستطاعوا تكوين علاقات صداقة مع الحراس وإدارة السجن، وأوصلوا بمعاملاتهم قوة الفلسطيني، وقدرته على النفع في كل مكان وصل إليه.
أمضى الفلسطينيون الثلاثة فترة اعتقالهم والخوف يُسيطر على قلوبهم، فالشعور بعدم الأمان في كل لحظة، ومحاولات الاغتيال لم تغب يوما، ومعرفتهم بطبيعة الاحتلال أكدت لهم ضرورة الحرص اللازم.
وتضيف عسلي: "خرج محمود من السجن، وأمضى فترة من حياته في البارغواي، وانتقل بعدها للعيش في الأردن، وظل مترددا بين البلدين، في كل مرة يدخل بها البارغواي يشعر بالخذلان والظلم الذي تعرض له شابا يافعا، وظل حتى توفاه الله قبل عامين في الأردن متمنيا العودة لوطنه، ومحاكمة الاحتلال على جرائمه".
وحول محاكمة الاحتلال على جرائمه بحق المهجرين، أوضحت العالمة عسلي: "نحاول بكل الطرق محاكمة الاحتلال في كافة المحاكم والمحافل الدولية، ولكن إلى الآن لم نصل إلى هذا الهدف، ونبحث لا زلنا عن مئات اللاجئين الذين تعرضوا لذات المعاناة، ونتمنى الوصول إليهم قريبا، والعمل بكل قوة من أجل تفعيل قضية الفلسطينيين المهجرين إلى البارغواي".
توفي المناضل الفلسطيني محمود يوسف بعيدا عن وطنه قبل عامين، وترك خلفه حكاية كبيرة من الوجع والألم، حكاية الفلسطيني الممزوجة بالتهجير والترحيل والاعتقال، كان يتمنى أن يُدفن في وطنه فلسطيني، لكن شاءت الأقدار أن يصل صوته ومعاناته لكل فلسطيني، وأن يتناقل الأجيال سيرته والمعاناة التي تعرض لها ورفاقه، ولسان حالهم "إن كنت فلسطينيا، فكل ممنوع بحقك مرغوب، فلا قانون يحميك، ولا ضمير يشفع لك.