اجتماعات متتالية للمجلس الوزاري المصغر (الكابينيت) في (إسرائيل)، وزيارات مكوكية للولايات المتحدة، وحرب إعلامية يقودها الإعلام الصهيوني ضد المقاومة، تتأرجح تارة ضد الجبهة الشمالية (جنوب لبنان)، وتارة أخرى ضد الجنوب (قطاع غزة) وتتركز أحيانًا حول الضفة المحتلة والقدس، وأخرى يهيّأ الرأي العام الإسرائيلي بأن العمل سيَستهدف المقاومة بما هو أبعد من الدول المحيطة بفلسطين.
السؤال هو: ما الذي يحدث؟ وما هي خيارات (إسرائيل) في الفترة المقبلة؟ وما هي الآليات الممكنة للتعاطي مع سيل التهديدات؟
أولًا: ما الذي يحدث؟
في تقديري أن نتنياهو وحكومته يعيشان أزمة حقيقية على أكثر من مستوى على النحو التالي:
∙أزمة مرتبطة بالائتلاف الحاكم، وحجم التأثير السلبي الذي أصاب صورة دولة الاحتلال لدى المجتمع الدولي بسبب سلوك وتصريحات بعض الوزراء في حكومته، وهو ما انعكس سلبًا على علاقته بالولايات المتحدة، إذ تعد المرة الأولى التي لم يدعَ رئيس الحكومة لزيارة البيت الأبيض حتى اللحظة.
∙أزمة التعديلات القضائية التي ساهمت في ضرب وحدة المجتمع الصهيوني، وأثره في الاقتصاد وقوة الشيقل، وإذا تفاقمت الأزمة أكثر فإن الانقسام والشرخ المجتمعي سيزداد، وهذا سيسجل تاريخيًا في سجل نتنياهو السياسي.
∙أزمة الجريمة المنظمة في الوسط العربي داخل (إسرائيل)، ليس من باب حرص الحكومة الصهيونية على فلسطينيي 1948 بل على العكس المتهم الأول في تدفق السلاح ودعم الجريمة المنظمة هو جهاز الشاباك، لكن ما يخشاه نتنياهو بأن تأتي اللحظة ليتوجه جزء من هذا السلاح لأعمال المقاومة.
∙أزمة تزايد أعمال المقاومة في الضفة الغربية والقدس، وهذا بالتأكيد يشكل استنزافًا كبيرًا لدولة الاحتلال، وعبئًا أمنيًا أكبر.
∙أزمة التحولات في النظام الدولي، وفرص دخول إيران لمجموعة البريكس، واقترابها من العتبة النووية، والطلب السعودي بضرورة أن تمتلك برنامجًا نوويًا للأغراض السلمية، وسباق التسلح في الشرق الأوسط في ظل التوتر بين روسيا والصين من جهة وبين الولايات المتحدة من جهة أخرى.
وهناك بعض الأزمات التي لا يتسع المقال أن يتناولها، ما يؤكد أن نتنياهو بأزمة حقيقية وأن أمامه سيناريوهين:
الأول: المضي قدمًا بتلك الأزمات والتعاطي معها وهو ما يعني أنه في طريقه نحو مواجهة تلك الأزمات عبر مسارَين:
-تصديرها للخارج (الدخول في معارك وحروب عسكرية واستخباراتية).
-التكيف مع الأزمات وسرقة الوقت وانتظار المتغيرات التي تخدم تطلعاته بالبقاء في سدة الحكم، ودفع الآخرين لتقديم الحلول وأهمها الموافقة على تشكيل حكومة وحدة بزعامة نتنياهو ومشاركة لبيد وغانتس وآخرين.
الثاني: الهروب من تلك الأزمات عبر التنازل والإذعان للمعارضة ومطالب الولايات المتحدة، عبر التراجع عن الانقلاب القضائي، ووقف الاستيطان والتوغل في الضفة الغربية، ودفع المسار السياسي مع السلطة الفلسطينية مع ضرورة تعزيزها، وفي تقديري أن ذلك غير مستحيل ولكنه يتعارض مع السمات الشخصية لنتنياهو وائتلافه الحاكم، ومع توجهات المجتمع الصهيوني الذي يميل نحو أقصى اليمين.
ثانيًا: خيارات (إسرائيل) في المرحلة المقبلة.
هناك أتحدث عن خيارات (إسرائيل) في المرحلة المقبلة القريبة (حتى نهاية عام 2023م)، وهنا سأطرح جميع الخيارات التي من الممكن أن يذهب لها نتنياهو، التي تتمثل في خيارين:
1.تصدير الأزمة واستعادة قوة "الردع" عبر عدوان على المقاومة، وهذا يطرح تساؤلًا حول جغرافية المكان والزمان، هل سيكون بالضفة الغربية أم قطاع غزة أم جنوب لبنان أم سوريا أم أبعد من ذلك؟ وما حجم المعركة التي ممكن أن يدخل بها نتنياهو؟ وهل فعلًا يمكن أن تحقق له مبدأ الردع الاستراتيجي؟ تساؤلات من المؤكد أنها على أجندة المستوى السياسي والعسكري والأمني في (إسرائيل)، وهذا يفاقم من أزمة نتنياهو، وتدفعه للتفكير كثيرًا في سيناريو الحرب الشاملة الذي جاء على ذكره صالح العاروري القيادي في حماس لقناة الميادين والأقصى، ودفع الكابنيت لمناقشته في جلسة منفصلة، حيث تزداد مؤشرات تلك الحرب مع زيادة الترابط بين الساحات، على سبيل المثال: استهداف صالح العاروري تداعياته حرب مع لبنان –قطاع غزة –، وزيادة عمليات المقاومة بالضفة الغربية مع زيادة حاضنة المقاومة حتى من داخل صفوف السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية –حراك كبير داخل الخط الأخضر– وتعطل قطار التطبيع– المساس بصورة (إسرائيل) نتيجة المجازر المتوقع ارتكابها بحق المدنيين وفرص مقاضاة قادة الاحتلال في المحاكم الدولية.
ما سبق يفسر حالة التردد للذهاب نحو هذا الخيار ونقل القرار للمستوى العسكري للبحث عن الرد الأمثل الذي يحدث مقاربة تحقق بعضًا من الردع دون دفع المنطقة لحرب شاملة، وهو ما يعزز من فرص البحث عن العمل في المناطق الأقل كلفة (الضفة الغربية) أو في عمليات تقودها الاستخبارات الصهيونية خارج حدود فلسطين دون الإعلان عنها، لكن هذا لا يعني أن العنجهية والغطرسة التي تتسم بها الحكومة الصهيونية الفاشية أن تذهب بجميع الخيارات وهو ما يستدعي الحذر لدى قادة المقاومة.
2.تأجيل العمل العسكري والاكتفاء بالحرب النفسية والاعلامية، وإعطاء الفرصة لوحدة المشهد السياسي عبر حكومة وحدة وطنية، تؤسس لتجاوز جميع المعضلات ثم التفرغ لاستعادة الردع الاستراتيجي، وبذلك تمرر (إسرائيل) الأعياد اليهودية في سبتمبر وأكتوبر/2023م، وترميم العلاقة مع الولايات المتحدة، وتدفع بصفقة التطبيع مع السعودية إلى الأمام، وتكتفي في الأشهر القليلة القادمة بمراقبة الحدود ومنع التهريب، وعمليات عسكرية ذات طابع استخباراتي داخل الضفة الغربية، ومقايضة غزة بالتسهيلات.
ثالثًا: الآليات الممكنة للتعاطي مع سيل التهديدات.
فلسطينيًا، لا ينبغي الانتظار والترقب والعيش بقلق وكأن (إسرائيل) هي المقرر الأول والأخير، وأن الفلسطينيين عاجزون عن فعل شيء، في تقديري يستطيع الفلسطينيون البحث عن آليات تقلل من فرص اندلاع عدوان إسرائيلي على الأراضي الفلسطينية أو العربية عبر الخطوات التالية:
1.العمل الفوري على ترسيخ الوحدة الوطنية الفلسطينية، والإعلان عن خطوات لتحقيق ذلك: أهمها زيادة الثقة بين الفصائل الفلسطينية عبر قرار رئاسي بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، والإعلان عن موعد للانتخابات الشاملة والتوافق على آلية عقدها بالقدس، والخروج بقرار: أن أي اعتداء إسرائيلي على بقعة من الوطن هو اعتداء على الجميع وسيقاتل الجميع الاحتلال، وسنلقي بمفتاح السلطة للاحتلال لتحمل مسئولياته كقوة احتلال، وستعمل الدبلوماسية الفلسطينية للذهاب لجميع المحاكم الدولية لمقاضاته.
2.تحرك عاجل للدبلوماسية الفلسطينية الرسمية والشعبية لدفع موقف عربي جامع رسمي وشعبي يرفض أي عدوان.
3.تعزيز صمود الجبهة الداخلية، والخروج باستراتيجية وطنية موحدة لخلط أوراق الاحتلال، عبر الذهاب المسبق لمقاومة شعبية على جميع الجبهات في الوطن، والاشتباك مع السفارات الصهيونية في العالم، وتوجيه نداءات للعالم بحجم المخاطر التي ينوي نتنياهو وحكومته الفاشية ارتكابها ما يهدد حالة السلم والاستقرار الإقليمي والدولي.
4.التنسيق مع لجنة المتابعة العليا لحشد الموقف الفلسطيني في الداخل المحتل ليكون متأهبًا وجاهزًا لمؤازرة الشعب الفلسطيني من أي عدوان بما يعيد للاحتلال وينعش ذاكرته بما حصل أيام سيف القدس 2021م.
الخلاصة: الشعب الفلسطيني من أكثر شعوب الأرض كرهًا للحروب والقتل، ومن أكثر شعوب الأرض حبًا للحياة، ولكنه أيضًا من أكثر شعوب الأرض التي تعرضت لظلم تاريخي وقهر وقتل وإرهاب دولة بل دول ساعدت ووقفت بجانب دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهو من أكثر شعوب الأرض تضحيةً في سبيل تحقيق هدف واحد ووحيد وهو نيل حريته وتقرير مصيره عبر الانعتاق من الاحتلال، وما لا يعلمه نتنياهو والعالم الغربي أن مسار العدوان والقتل وزراعة الألم لا يحصد سوى الألم، وأن المدخل الصحيح لتثبيت حالة السلم والأمن والاستقرار الإقليمي والدولي يتمثل في إجبار (إسرائيل) على المسار السياسي الذي يؤسس لإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة مترابطة جغرافيًا على حدود الرابع من حزيران 1967م، وهذا لا يمكن أن يتحقق في ظل ازدواجية المعايير التي يتعاطى بها العالم الغربي، وعليه يتحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية في إلزام (إسرائيل) لتنفيذ مقررات الشرعية الدولية، وهذا لا يمكن أن يتم إلا عبر الفصل السابع للأمم المتحدة بعد مرور كل هذه السنوات التي تنكرت (إسرائيل) لتنفيذ تلك القرارات، وما رافق ذلك من فاتورة بشرية دفع شعبنا الفلسطيني نصيب الأسد منها.