لا يزال السؤال الأبرز الذي يبحث الجميع عن إجابة واضحة له، "هل ستنجح قوات الاحتلال الإسرائيلي في خطتها بتهجير سكان قطاع غزة؟ وإحداث نكبة فلسطينية جديدة!"، وهو ما أجاب عنه سكان قطاع غزة بشكل عملي، من خلال تمسكهم بأرضهم، ورفضهم لخطة التهجير، برغم القصف الإسرائيلي الوحشي والغير مسبوق الذي تتعرض له جميع محافظات قطاع غزة لليوم السابع عشر على التوالي.
عايش سكان قطاع غزة منذ عام 2005 وحتى العدوان الجاري أكتوبر 2023، عشرات التصعيدات الإسرائيلية، والاعتداءات الكبرى، والتي أدت إلى آلاف الشهداء، وعشرات الآلاف من الجرحى، وتدمير عشرات الآلاف من البيوت والوحدات السكنية، غير أنهم ظلوا متمسكين بأرضهم، رافضين لفكرة الخروج منها.
بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من غزة سبتمبر 2005، كان سكان القطاع على موعد مع العدوان الفلسطيني الكبير عام 2006، بعد أسر فصائل المقاومة للجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، حينها شنت قوات الاحتلال عدوانا كبيرا، قصفت فيه محطة توليد الكهرباء الوحيدة في قطاع غزة، وعاثت فسادا ودمارا وقتلا في القطاع، غير أن الأحداث المفاجئة التي حدثت على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة مع لبنان، وقيام حزب الله بعملية نوعية، تمكن خلالها الحزب من أسر عدد من الجنود، ما دفع الاحتلال لشن هجوم كبير على الجنوب اللبناني، الأمر الذي خفف من حدة العدوان على غزة في حينها.
لعل صورة العدوان الهمجي الذي نفذته قوات الاحتلال الإسرائيلي يوم السابع والعشرين من شهر ديسمبر من العام 2008، لا تزال حاضرة لدى الجميع، كبيرا وصغيرا، فلسطينيا وعربيا وغربيا، مسلما ومسيحيا ويهوديا ولدى كل الطوائف، فما أحدث الاحتلال يومها من جرائم كانت حديثة على الجيل الجديد، الجيل الذي لم يعش مجازر الاحتلال في نكبة 1948، ولا في صبرا وشاتيلا، ولا غيرها من المجازر التي لا تزال شاهدة على وحشية وجبروت هذا المحتل، الذي أضاف عام 2008 جرائم جديدة لمسلسل جرائمه التي لم يتوقف، حيث قصفت طائراته جميع المقرات الأمنية في قطاع غزة، وأوقع في اللحظة الأولى من القصف مئات الشهداء وآلاف الجرحى، واستخدم في هذا العدوان قذائف الفسفور المحرمة دولية، وأباد عائلات بأكملها، في عدوانه الذي استمر حينها 23 يوما، خرجت غزة فيها منتصرة بإرادة البقاء ومواصلة المقاومة لا أكثر.
ظلت قوات الاحتلال تعتدي على غزة بين الفينة والأخرى، وتحاول استعادة الجندي الأسير لدى المقاومة جلعاد شاليط، لكن دون فائدة، حتى تمكنت فصائل المقاومة من إبرام صفقة تبادل للأسرى نهاية عام 2011، تمكنت من خلالها الإفراج عن ما يزيد عن 1000 فلسطيني، مقابل الجندي الإسرائيلي، وهو ما اعتبرته المقاومة نصرا كبيرا، واختراقا واضحا لملف الأسرى الذي لطالما استخدمه الاحتلال للضغط على الفلسطينيين.
لم تفق سلطات الاحتلال الإسرائيلي من صدمتها من صفقة تبادل الأسرى، في ظل التغييرات الكبيرة التي أحدثتها ثورات الربيع العربي، وتغير أنظمة الحكم في الشرق الأوسط، والتي صعدت بحكم جماعة الإخوان المسلمين لمصر، وفوز الرئيس المصري الراحل محمد مرسي بانتخابات الرئاسة المصرية عام 2012، حتى شنت قوات الاحتلال خلال شهور نوفمبر 2012 عدوانا كبيرا على قطاع غزة، عُرف إعلاميا بحرب الأيام الثمانية، غير أن مصر كانت لها كلمة قوية في هذا العدوان، حيث طردت السفير الإسرائيلي من مصر، وأرسل الرئيس مصري خلال العدوان رئيس الوزراء المصري آنذاك هشام قنديل إلى غزة بصحبة وفد من وزراء الخارجية العرب ووزير الخارجية التركي، ونجحت مصر في إيقاف العدوان في اليوم الثامن، وخرجت غزة منه منتصرة بعدة تفاهمات أبرزها توسيع مساحة الصيد، وإيجاد خط جديد أو شارع جديد لسكان القطاع على مقربة كبيرة من الحدود الشرقية للقطاع، فيما بات يُعرف بين الغزيين باسم شارع "جكر"، كناية عن تعبيده بالقوة رغم أنف الاحتلال.
وعلى نفس ما اعتاد عليه قادة الاحتلال، شن الاحتلال عدوانا كبيرا وهمجيا على قطاع غزة خلال صيف عام 2014، استمر 51 يوما، قتلت فيه قوات الاحتلال الإسرائيلي نحو 2500 فلسطينيا، وأصابت الآلاف، وهدمت آلاف البيوت والوحدات السكنية، وهو ما دأبت عليه في كل عدوان، لكن هذا العدوان كان الأقسى والأشد على سكان القطاع بعد عدوان 2008، وانتهى العدوان بنصر معنوي لسكان القطاع بالبقاء على أرضهم، والثبات أمام محاولات الاحتلال اليائسة في دفعهم للهروب من غزة.
بعد عام 2014 واصلت قوات الاحتلال الإسرائيلي اعتداءاتها على قطاع غزة، وزادت من تغولها على المدينة المقدسة، وهو ما أجبر فصائل المقاومة على الدفاع عن القدس والمسجد الأقصى، في معركة أسمتها المقاومة سيف القدس خلال شهر مايو 2021، كانت محطة فارقة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ونجحت المقاومة بتشكيل غرفة عمليات مشتركة لفصائل المقاومة في قطاع غزة، أدارت من خلالها الجولة بكل كفاءة واقتدار، ونجحت في لجم اعتداءات الاحتلال عن مدينة القدس، وأوجدت قاعدة العمل العسكري المسلح في حال أي اعتداء على المقدسات الفلسطينية.
حاولت قوات الاحتلال الإسرائيلي بعد معركة سيف القدس الاستفراد بكوادر وقيادات حركة الجهاد الإسلامي، من خلال عمليات اغتيال لأبرز قياداتها، واعتداءات كبيرة تعرض لها القطاع لعدة أيام خلال العامين 2022/2023، غير أن حركة حماس وجناحها العسكري كتائب القسام كانت تنتظر توقيتا مناسبا لرد العدوان، وراكمت من قوتها، وواصلت الإعداد والتجهيز، حتى ضربت قوات الاحتلال في مقتل لم يكن أحد يتوقع في السابع من شهر أكتوبر الجاري من العام 2023، ونجح مقاتلو القسام في السيطرة على جميع مستوطنات غلاف غزة، وإحكام سيطرتها على جميع الثكنات العسكرية المتاخمة لقطاع غزة، وتمكنت من قتل المئات وأسر العشرات من الجنود الإسرائيليين، في عملية عسكرية مباغتة شارك فيها جميع أطياف الشعب الفلسطيني، وتمكن فيها سكان قطاع غزة من الدخول والتجول في مستوطنات غلاف غزة، وأطلق القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف على هذه العملية اسم "طوفان الأقصى".
لم يفق الكيان الإسرائيلي المحتل من هول وحجم الصدمة التي سددتها كتائب القسام لقواته، والتي نجح فيها القسام من إخراج كتيبة غزة من الخدمة، حتى حولت قوات الاحتلال غضبها اتجاه سكان قطاع غزة، في عدوان لم يسبق له مثيل، وفي تغول واضح، وضمن هدف معلن بتهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء، فقصفت ودمرت عشرات الآلاف من البيوت والوحدات السكنية، وقتلت ما يزيد عن 4700 فلسطيني، إضافة إلى نحو 2000 فلسطينا مفقودا تحت ركام البيوت المدمرة، وفي مستوطنات غلاف غزة، وجرحت وأصابت ما يزيد عن 14000 فلسطينيا، ولا يزال عدوانها متواصلا لليوم السابع عشر.
من المعروف لدى الفلسطينيين الدعم الأمريكي للاحتلال الإسرائيلي في جميع اعتداءاته، لكن الدعم الأمريكي في هذا العدوان غير مسبوق، ولعلها الزيارة الأولى التي يقوم بها رئيس أمريكي للكيان الإسرائيلي خلال العدوان، والتفويض الأمريكي لقوات الاحتلال بالرد والقتل والقضاء على حماس، وما كشفته وسائل الإعلام من وعود أمريكا للقيادة المصرية بإلغاء وسداد جميع ديون مصر مقابل الموافقة على تهجير سكان قطاع غزة لسيناء، وهو ما رفضته القيادة المصرية، باعتباره أمرا يهدد أمنها القومي، وينهي القضية الفلسطينية.
تركز قوات الاحتلال عملياتها على محافظتي غزة والشمال، وأعلنت من خلال اختراق البث الإذاعي للإذاعات المحلية، وإلقاء طائراتها لمنشورات ورقية، طالبت فيها سكان غزة والشمال بإخلائها والتوجه لمحافظات الوسطى والجنوب، فيما أسمتها قوات الاحتلال بمناطق جنوب وادي غزة، غادر الآلاف من الفلسطينيين ممن قصف الاحتلال منازلهم إلى وسط وجنوب القطاع، ولا يزال عشرات الآلاف متمسكين بأرضهم، ثابتين في بيوتهم، يرفضون مغادرة غزة إلا لديارهم وبلادهم التي احتلها الاحتلال عام 1948.
القصف الإسرائيلي الغير المسبوق، وتشكيل أحزمة نارية، وتدمير أحياء سكنية بأكملها، وتلويحه بهجوم بري، وتصريحات قادته، جميعها تؤكد أنها تنصب تحت الحرب المعنوية التي تهدف منها سلطات الاحتلال إلى تهجير سكان قطاع غزة، غير أن هذا الجيل الذي ولد وعاش في قطاع غزة، وتربى على قصص النكبة، والوعود الكاذبة للفلسطينيين بالهروب لفترة قصيرة من أماكن الحرب والعودة لها بعد انتهاء الحرب، جميعها لا تزال حاضرة في أذهان هذا الجيل، ولن تنطلي عليهم أي خدعة أو حيلة أو مؤامرة، فالوقت للثبات لا لسماع دعوات الهجرة الملعونة.
يؤكد سكان قطاع غزة للجميع أن لا هجرة بعد اليوم، وأن التاريخ لن يسجل على هذا الجيل أنه أوجد نكبة جديدة، أو ساهم في إنهاء القضية الفلسطينية، ولا يمكن لهذا الجيل أن يترك الأرض التي ولد وتربى وعاش عليها، فقد تعرض هذا الجيل لجولات كبيرة من الاعتداءات الإسرائيلية، وتحمل الكثير الكثير من أجل البقاء في أرضه، حيث استهدف الاحتلال خلال العقدين الأخيرين على غزة من الصواريخ والقذائف الكم الكافي لإسقاط دول عظمى بأكملها، لكن إرادة البقاء، وحب أهل غزة لأرضهم دفعهم للصمود والثبات، فلا يوجد بعيون أهل غزة أغلى من أرض غزة إلا المدن والقرى التي احتلها الاحتلال عام 1948، فلا تهجير بعد التهجير الأول، ولا هروب بعد اليوم.
ولكل من يستغرب ثبات الفلسطينيين، وتمسكهم بأرضهم ووطنهم، نقول للجميع أن غزة بعيون أهلها وطن السماء، وموقظة الأحياء، وملقنة المحتل صاحب الغباء، كل فصول الذل العناء، ومعلنة للجميع عزة البقاء، وحب الحياة والبناء، والتمسك بأرض ورثوها من الأجداد، ولا يمكن لهذا الجيل الفلسطيني خيانة العهد، وإضاعة الأمانة، فقد حزم أهل غزة أمتعتهم للعودة إلى وطنهم لا إلى وطن بديل غيره، رُفعت كل الأقوال، وجفت كل الكلمات، وكتب أهل غزة عزهم بالدماء والتضحيات.
وللقصة بقية ما بقي طفل فلسطيني يحلم بالعودة ولو بعد حين، فأهل غزة حاليا بين شهيد صعد إلى السماء، وبين شهود على إفشال مخططات الاحتلال، والتحرير المرتقب لكل فلسطين.