14.45°القدس
14.21°رام الله
13.3°الخليل
18.21°غزة
14.45° القدس
رام الله14.21°
الخليل13.3°
غزة18.21°
السبت 01 فبراير 2025
4.46جنيه إسترليني
5.05دينار أردني
0.07جنيه مصري
3.73يورو
3.58دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.46
دينار أردني5.05
جنيه مصري0.07
يورو3.73
دولار أمريكي3.58

من ذاقَ عرف

د. آلاء القطراوي

عليك أنْ تُحرَم لتكتشف سرّ ( من ذاقَ عرف )

وأقصد بالحرمان هنا أي الانقطاع عن ما اعتدت عليه، أن تجرب حياتك خارج دائرة الاعتياد، لأنّ الاعتياد والروتين اليومي العادي يُشعرك دائماً أنّك إنسانٌ غير مكتفٍ بمعنى أنّ كل ما لديك هو غير كافٍ، عدا عن كونك لا تعرف مقدار عظمة النعم التي منحك إياها الخالق وذلك لأنّك تشعر دائماً أنها موجودة، اليوم أول مرة أذوق طعم الشوكولاه منذ أكثر من عام تحت الحرب، اخترتُ نوعاً محشواً بطبقة رفيعة من البسكويت ومغطىً بطبقة كبيرة من الكراميل، انتقيتها بعناية من بين عشرات قطع الشوكولاه المتنوعة أمامي، لأننّي أريدها قطعة مميزة وعلى مزاجي وكما أحبّ، وقبل أن أفتحها قرأت كل مكوناتها مكوناً مكوناً وتأملت الغلاف جيداً، وأعجبني امتزاج الأحمر بالأصفر وشعرت كم أنّها قطعة شوكولاه صاخبة، تلك الألوان كأنها تقيم حفلة راب غنائية، وانتبهت إلى بلد المنشأ، وقرأت كل المكونات بالتفصيل، واكتشفت أنني لم أكن أعرف مكوّنات الشوكولاه من قبل، وكنت أظنها مصنوعة من الحليب والكاكاو وبعض النكهات فحسب، وإذ بي أعرف مكوّنات أخرى جديدة لم أكن أعرفها من قبل مثل ( صوديوم، نشا مستحلب وغيره )، هذا على صعيد قطعة شوكولاه صغيرة جعلتني أنتبه لكل تلك التفاصيل، أو ربما ربما تجربتها بعد انقطاع طويل جعل لي عيناً ثالثة أبصر بها بشكل أدقّ، وكلّما قضمت قضمةً منها شعرت أنني أتذوق قطعة شوكولاه صاخبة، أشعر بكل تلك المكوّنات البسكويت وطبقة الكراميل الكثيفة، وأرى لوني الأحمر والأصفر الفاقعين يتماوجان أمامي، وحين ذقتها عرفتها حقيقةً.

إذا حدث هذا معي وأنا في محاولتي الأولى لتذوق قطعة شوكولاه بعد انقطاع، فكيف على صعيد المعرفة الإلهية العظيمة، وهذه المعرفة تبدأ بالحرمان أي الانقطاع عن كل ما هو دنيوي والاتصال بكل ما هو سماويّ، لذلك قبل أن تبدأ رحلة الرسالة لسيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم انقطع للعبادة في غار حراء، وحين تحقق بذلك الانقطاع التام عن كل الملذات، ذاق وصال الله عز وجل، وحين تحققَ ذلك الذوق العالي الرفيع عند سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نزل عليه الوحي ( سيدنا جبريل عليه السلام )، لأنّه أصبح مهيّأً لاستقبال وتذوق معاني الرسالة روحياً وجسدياً، وفي ذلك أيضاً لمّا أراد الله عز وجل أن يذيق سيدنا زكريا عليه السلام آيته، قال له لا تكلم الناس ثلاث ليالٍ سويا، ومعنى ذلك هو ( تحققْ يا زكريا بالعزلة الروحية لتتهيأ لاستقبال إشارات الله الغيبية )، وفي ذلك رسالة إلهية للمؤمن عليك أن تُحرَم لتتذوق معاني العطاء، لذلك يقول المتصوفة ( المنع عطاء)، وأعظم مراحل العرفان أن تنظر إلى كل منع في حياتك على أنّه عطاءٌ عظيم، وفي الحرمان منح لا تحصَى، وأهم منحة أن تتذوق بعده حلاوة العطاء، فلن تحسَّ باللذة إلا بعد انقطاع، مثل أن تكون عطشاناً جداً وفجأة تشرب الماء فترتوي، وحين تقول (الحمد لله) فإنك تتحقق بكل معانيها، وليس مثل آخرٍ اعتاد أن يشرب الماء بيسر كل نصف ساعة ويقول الحمدلله دون أي حضور للحمد في قلبه، وكأن الله عز وجل به ينظّف الغشاوة عن بصيرتك، وحين تتنظف تماماً، تبدأ مرحلة العرفانية، في الوقت الذي ظننت به أن الكرة الأرضية قد توقفت عن الدوران وأنَّ ألمك العظيم لا يمكن أن تحمله على ظهرك وتصعد به الجبل لأنك لست سيزيف، وأنها النهاية، وأنك لا تستطيع أن تسير خطوة واحدة للأمام مع كل هذه الجروح فيك، تكتشف أنّ المجرات تجمّعت كلها في روحك، وأن هنالك نجوم تلتمع في سمائك، وهنالك شموسٌ لا تغيب أبداً، ذلك المعنى الذي أشار له سيدنا علي عليه السلام ( وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبرُ)، ذلك العالم الأكبر موجود في داخل كل إنسان على الأرض لكنه مطوي في خزانة روحك، تحتاج أن تفتحه بمفتاح اليقين بالله وأن تمسكه بيديك وأن تنشره وتتأمل عظمة الله عز وجل في أنْ جعلكَ خليفته على الأرض.

 أحبّ جداً سيدنا إبراهيم عليه السلام، لأنّه اختار أن يبحث عن الله عز وجل، وقد ذكر لنا الله عز وجل قصته في القرآن الكريم، وأكثر ما لفتني في هذه القصة أنّ سيدنا إبراهيم لم يبحث عن الله عز وجل في الأرض، بمعنى لم ينظر للبحر ويقول هذا ربي أو للنار أو للشجر، كان يبحث عنه في السماء، أي أنّ فطرته النقية قادته إلى أن الله عز وجل موجود في السماء وأنّه في الأعلى ولا يمكن أن يكون من مكوّنات الأرض المحسوسة، فبحث عنه في الشمس والقمر والنجوم، ولأنّه اختار أن يبحث عنه دلّه الله عز وجل عليه، والشاهد هنا أنّهُ نبيّ وكان يمكن ألا يبحث عن الله عز وجل وتبدأ الرحلة بأن يكون نبياً عارفاً بربه، لكنّ الله عز وجل بطريقةٍ ما يخبرنا ( ابحثوا عني وحين تبدؤون رحلة البحث سأجيبكم)، والمقصد هنا في عملية البحث أقصد بها هو الرغبة في معرفة الله عز وجل، لذلك حين طلب سيدنا إبراهيم التعليم علّمه الله، ولذلك كان دعاء النبي عليه الصلاة والسلام ( اللهم يا معلم إبراهيم علّمني)، التعليم لسيدنا آدم عليه السلام كان تعليماً خاصّاً بأن علمه الأسماء كلها، لكن تعليم سيدنا إبراهيم فيه خصوصية أكبر، وقد تجلّى فيه شيء عجيب جدا إذا صحَّ أن أسميه ( تواضع المعلم للمتعلم ) خاصة حين طلب سيدنا إبراهيم من الله عز وجل أن يريه كيف يحيي الموتى، لم يقل له: (كيف تطلب ذلك أنت غير مهذب معي كيف تطرح علي هذا السؤال وأنا الله العظيم الأعظم المبدئ المعيد المنشئ)، قال له الله عز وجل في أبدع ما يكون وأرق ما يمكن أن تسمع ( أولم تؤمن بعد ) ليردّ سيدنا إبراهيم ( بلى ولكن ليطمئن قلبي )، تلك الطمأنينة هي مطلب حقيقي لكل مؤمن، (أنا أثق بك وأؤمن بك يا ربي لكن أحتاج أن تطمئنني، وأن تثبّتني) بعد أن طلب سيدنا إبراهيم من الله أن يحصل على الطمأنينة استجاب له الله عز وجل وأراه ذلك بعينه.

فتعلم سيدنا آدم تعليم المتلقي من الله عز وجل، بينما كان تعليم سيدنا إبراهيم تعليم العارف وفي هذا خصوصية أكبر لذلك يلقّب سيدنا إبراهيم بخليل الرحمن، أي أنّه صاحبه، حين يتحقق قلبك بمعنى الصحبة الكاملة مع الله عز وجل، تترقى من مرحلة التعليم بالتلقي إلى مرحلة التعليم العرفانية، أي تنتقل من مقام التعليم ( الآدمي ) إلى مقام التعليم ( الإبراهيمي )، وتتفتح روحك الملكوتية، وترشف من أسرار الله في كونه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المصدر: فلسطين الآن