18.9°القدس
18.66°رام الله
17.75°الخليل
19°غزة
18.9° القدس
رام الله18.66°
الخليل17.75°
غزة19°
الخميس 08 مايو 2025
4.77جنيه إسترليني
5.05دينار أردني
0.07جنيه مصري
4.06يورو
3.58دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.77
دينار أردني5.05
جنيه مصري0.07
يورو4.06
دولار أمريكي3.58

حين تشبعُ الروح!

د. آلاء القطراوي

أتذكر أنّ أحداً سألني، كيف تأكلين في ظلّ المجاعة التي نتعرّض لها؟، فقلتُ له:

-  أصبحتُ أتخيّلُ أنني تناولتُ الطعام حقّاً أكثر من قضاء الوقت في اشتهائي له.

 يعني مثلاً أجلب سيقان البصل الخضراء أضع عليها البهارات وأُقلّبها وأتخيلُ أننّي أضفتُ لها البيض، وإذا أردتُ أنْ أستخدم خيالي الشاعري فإننّي أضيفُ أيضاً قِطَعَ الفليفلة والمشروم

سألني: وكيف يكون الطعم؟

ذلك سؤالٌ غريب بالنسبة لي، لأنني منذ أكثر منذ عام ونصف تحت الإبادة لا أشعر بماهية الطَعمْ، الأطعمة كلها لها نفس المذاق، رائحة دخان النّار وحزن طويل جداً بامتداد المقابر الجماعية وخاصة تلك القبور التي كتبوا عليها ( مجهول الهوية).

لكنّني اكتشفت أنّ ذلك التخيّل جعلني في حالة من التوازن البيولوجيّ إذا صحَّ التعبير، عدا أنّه يُخرجني من قوقعة هذه الزنزانة البائسة والمسماة ( الجوع )

ولأننّي أحببتُ التخيّل، قررتُ ألّا أشرب قهوتي منفردة، أغمضتُ عيوني وتخيّلتُ بجانبها قطعةَ وافل.

سألني: وهل أحسستِ بطعم الوافل؟ أجبته: نعم

أتساءل، هل يستطيع الإنسان أن يتذوق عبر ذاكرته؟ باعتقادي، نعم إنّهُ يستطيع!

لأنَّ للإنسان إحساساً روحياً خارقاً، يستطيع من خلاله أن يتذوق المجازات والمشاعر والمواقف والكنايات، فالإنسان يتذوّق الألم بنفس الإحساس ولو مضى على مروره سنوات طويلة، وحين يتذكر شخصاً أغضبه فهو يشعر كأنّما أوقدوا النار تحت قلبه للتوّ.

الإحساس مقرونٌ بالتخيّل، فكلّ إحساسٍ هو ذاكرة حاضرة!

وأتساءل تساؤلاً آخر، كيف يجعلُ الإنسان جلّ ذوقه محصوراً بفمه؟ فيركّز دائماً على تناول المقبلات والوجبات الرئيسية والثانوية ومن ثم الشاي والقهوة والعصير، وهو لا يدرك بأنّه عبر هذا الزحام الذوقيّ في الجسد يُقفل حاسة الذوق في خياله وقلبه وروحه

لأنّك حين تملأ كيساً بلاستيكياً بالرمل والحصى حتى آخره فلا يظلّ به أي مساحة فارغة، وتحاول أن تضغط بإصبعك عليه، هل ستجد أثر تلك الضغطة فوقه؟ الإجابة: لا، لأنّه لا مساحة في الكيس لكي يستشعر أي استشعارٍ خارجيّ نحوه.

يقول الرسول ﷺ "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع"

هذا حديث هائل وعظيم لأسبابٍ كثيرة منها:

أنّك إذا أكلت وأنت شبعان فإنّك تفقد متعة التذوق، كدمية تحشوها بالقطن طيلة الوقت، ومهما حشوتها فإنّها ستبقى دمية منفوشة، ولن تتحول إلى طائر أو سنبلة قمح أو أيّ شيء آخر، لأنّ الأكل في حال الشبع يجعلكَ دمية بدون أيّ إحساس، وهذا أمرٌ لا يريده الرسول ﷺ لك، لأنّكَ أرفعُ من هذا وأكرم وأعظم.

أمّا إذا ظللت تأكل حتى وصلت إلى مرحلة الشبع، فإنّك تُضع قفلاً على شفاه روحك وبالتالي تفقدها قدرتها على الاستمتاع في تذوق المعاني، لأنّ الروح علوية وطبيعتها التلقي من خالقها، كيف ستتنزلُ فيها الأنوار وأنت قد سددت كل نوافذها بالطعام من أجل الولوج إلى نشوة الشبع، حتى لو تنزّلت عليك الأنوار فإن روحك لن تستطيع تذوقها ذلك لأنّك عطلت شفاه الروح المسؤولة عن رحلة تذوقك، فقد أطفأت مساراتها على حساب مسارات جسدك.

إننّي أحاول تأمل تلك المعاني الكثيرة التي لم يتسنَ لي تأملها إلا الآن، وذلك لأنّ هذه الحرب أعادت تعريف أشياء كثيرة لي في حياتي، ومن أهمّها الجوع.

هنالك جائعون كثر لكنّ قلوبهم شبعى، وهنالك شبعى كثر ولكنّ قلوبهم جائعة.

ستجد أناساً يأكلون أطايب الأطعمة وألذها في كل وقت ويتاح لهم طلب ما يشتهون في الوقت الذي يريدون، لكنهم لم يجربوا أن يسقيهم الله ويطعمهم، ولم يعرفوا أنّ أعظم شرابٍ يروي المرء وأعظم طعامٍ يذوقه على الإطلاق، أن يحبك الله، فتتذوق في كل ذرّة من جسدك وروحك ماهية هذا الحبّ، فيغدو كلّ شيءٍ سواه سيّان، وربّما لذلك قال الرسول ﷺ " إني أَبِيتُ يطعمني ربي ويسقينى"، ولا يمكنُ للمؤمن أن يبيتَ عند ربه، ولم يعرف كيف يجوع بدنه، لتشبع روحه، فكلّ جوعٍ حقيقيٍّ للبدن، هو معراج  العبد المفتقر إلى الغني المغني، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

المصدر: فلسطين الآن