على خطى الشهيد عبد القادر الحسيني، والشهيد عز الدين القسام، ارتقى قائد معركة طوفان الأقصى المباركة، القائد الكبير يحيى السنوار ” أبو إبراهيم”، شهيدا مقاوِما ممتشقا سلاحه حتى الرمق الأخير، دفاعا عن أرضه ووطنه.
من جنين القسام إلى رفح السنوار مسيرة مقاومة، وحكاية شعب ينسجها بصموده ومقاومته حتى دحر الاحتلال عن كامل أرضنا الفلسطينية.
رجل خرج من مخيم خانيونس ليقود الطوفان في السابع من أكتوبر، ثم يواجه طائرة مسيّرة بعصا قبل أن يرتقي شهيدًا في تل السلطان برفح.
بين ميلاد في اللجوء، وسنوات طويلة في السجون، وقيادة سياسية وعسكرية على رأس حركة حماس، صنع “أبو إبراهيم” مسيرة تختصر فلسفة المقاومة: ثبات حتى آخر نفس، ووحدة لا تعرف المساومة.
ميلاد المخيم
وُلد السنوار في 19 أكتوبر 1962 في مخيم خانيونس للاجئين بعد أن هجّر الاحتلال أهله من مدينة المجدل عام 1948، حيث شكّل المخيم وعيه الوطني المبكر.
درس في مدارس خانيونس، وأكمل دراسته في الجامعة الإسلامية بغزة حيث حصل على بكالوريوس اللغة العربية، هناك قاد العمل الطلابي، حيث ترأس مجلس الطلبة، وقاد الكتلة الإسلامية، فبرز مبكرًا كمنظّر شرس في الساحات الطلابية.
سنوات السجون
دخل السنوار السجون أول مرة عام 1982، ثم اعتُقل عليه عام 1988 وحُكم بأربعة مؤبدات، قضى منها 23 عامًا متواصلة.
تحوّل السجن إلى جامعة، ترأس فيها الهيئة القيادية العليا لأسرى حماس، وأدار مع رفاقه إضرابات كبرى عن الطعام في أعوام (1992، و1996، و2000، و2004)، وأتقن العبرية، وترجم من العبرية كتبًا مهمة، وله مؤلفات في السياسة والأمن والأدب، بينها روايته “الشوك والقرنفل” التي جسدت التجربة الفلسطينية بعد النكسة.
تشكيل “مجد”
شارك السنوار في تأسيس أول جهاز أمني للحركة، ثم ساهم في العام 1986 في تأسيس جهاز “مجد” الأمني، الذي شكّل نواة التجربة الأمنية لحماس.
صارت كتاباته وأدبياته التي وثقها داخل السجن لاحقًا مرجعًا للحركة، ورسّخت صورته كرجل التنظيم الصارم القادر على صياغة منظومات فكرية وأمنية متكاملة.
التصدر للقيادة
بعد الإفراج عنه في صفقة “وفاء الأحرار” عام 2011، تزوج ورُزق بثلاثة أبناء، وتسلّم ملفات أمنية وعسكرية في قيادة الحركة، وانتُخب رئيسًا لمكتبها السياسي في غزة عام 2017.
نجح السنوار في معالجة العديد من الملفات على الصعيد الوطني وغيره، وأسهم في التخفيف من أزمات غزة، وبذل مع حركة فتح جهودًا حثيثة لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية على أساس برنامج المقاومة.
وفي مسيرته، جمع السنوار بين أشكال متعددة من المقاومة، حيث قاد مسيرات العودة كأداة للمقاومة الشعبية السلمية انطلاقا من العام 2017، وأدار معارك عسكرية متكررة ضد الاحتلال وجولات مواجهة هز فيها عقيدة الردع الصهيونية، كانت أبرزها معركة سيف القدس عام 2021، كما حمل على عاتقه مهمة تحرير الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال باعتبارها أولوية وطنية وأخلاقية.
وفي خطاباته ومقابلاته، قدّم السنوار رؤية ترى العالم بميزان القوة والردع. بالنسبة له، المقاومة خيار وجود لا تكتيك، والشعب الفلسطيني لن يكون الضحية التي تقتل وهي صامتة، فتحدث عن الردع بالسلاح، وعن الصورة والذاكرة باعتبارهما سلاحين لا يقلان خطورة. هذا المزيج بين الفكر والتنظيم جعلا من فعله نظرية تؤرخ لمرحلة مهمة للصراع في فلسطين.
طوفان الأقصى
وفي 7 أكتوبر 2023، برز السنوار كأحد العقول المدبرة لعملية “طوفان الأقصى”، التي اعتُبرت أخطر وأكبر وأنجح هجوم فلسطيني عسكري ضد الاحتلال منذ عقود.
كان ذلك اليوم توقيعًا على صفحة جديدة من الصراع، حيث تحوّل أبو إبراهيم في الوعي الفلسطيني والعالمي إلى رمز لقائدٍ يخرج من تحت الحصار ويقلب معادلات الأمن الإسرائيلي رأسًا على عقب.
وبعد اغتيال إسماعيل هنية في يوليو 2024، انتُخب السنوار قائدًا عامًا لحركة حماس، فانتقل من موقع قيادة غزة إلى زعامة الحركة، كخطوة تحدٍ للاحتلال وتأكيد على أنه رجل المرحلة الذي يجمع بين تجربة الأسر والتنظيم والسياسة والميدان.
شهادة أيقونية
وفي 16 أكتوبر 2024، جاء الخبر الذي كذّب كل دعاية الاحتلال المستمرة على مدار شهور الحرب باختباء القادة بالأنفاق، ليفاجأ الجيش بأن جنوده يخوضون اشتباكاً مسلحًا مع أبي إبراهيم، ليرتقي على إثره شهيدا، مخضبًا بدمائه الزكية تراب تل السلطان في مدينة رفح جنوب قطاع غزة.
وسيطر على مخيلة الملايين المشهد الذي بثه جيش الاحتلال للسنوار من كاميرا طائرة مسيرة: مقاتل جريح يواجه الدرون بعصا. كان جالسًا ملَثِّمًا وجهه المتعب بكوفية فلسطينية، وبعد تقدم المسيّرة نحوه قذفها بعصاه في لحظة جسّدت فلسفته: “المقاومة حتى الرمق الأخير”.
وسرعان ما تحوّل المشهد إلى أيقونة عالمية، واضطر إعلام الاحتلال نفسه إلى الاعتراف بجسارة الموقف، وكتب بعضهم: “هكذا يموت الأبطال”، واعتبره آخرون “أسطورة مقاومة حية”.
وبينما حاول الاحتلال في جعل استشهاد السنوار خطوة نحو إنهاء مسيرة المقاومة، تحولت شهادته إلى وقود جديد للطوفان، وثبَّت مشهد استشهاده رمزيته كقائد للطوفان، وأيقونة لمواجهة المستحيل بعصا.
ترك السنوار وراءه نموذجًا لقائد لا يساوم، جمع بين الفكر والسلاح، بين السجن والميدان، بين الطوفان والعصا. في الذاكرة الفلسطينية، سيظل اسمه مرتبطًا بالثلاثية: المخيم، الطوفان، العصا.