يؤكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن الضربات الجوية الأمريكية خلال الصيف "أبادت" برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني، غير أن مسؤولين إقليميين ومحللين يشككون في صحة هذا الادعاء، محذرين من أن اندلاع حرب جديدة بين إسرائيل وإيران قد يكون مسألة وقت فقط.
وانتهى الاتفاق النووي الموقع عام 2015، الذي كان يهدف إلى الحد من تخصيب إيران لليورانيوم، الشهر الماضي، وأعيد فرض العقوبات الصارمة على طهران، وتشير المعطيات إلى أن المفاوضات بشأن برنامجها النووي باتت مجمدة، بينما يقدر أن لدى إيران مخزونا من اليورانيوم عالي التخصيب يكفي لإنتاج 11 سلاحا نوويا، تقول إيران إنه دفن تحت الأنقاض، فيما يعتقد المسؤولون الإسرائيليون أنه نقل إلى موقع آمن.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز"، فإن إيران تواصل تطوير موقع تخصيب جديد يُعرف باسم "جبل الفأس"، وترفض السماح للمفتشين الدوليين بدخوله أو تفتيش أي مواقع نووية أخرى غير المعلنة رسميا، ما أدى إلى حالة من الجمود الخطير، فلا مفاوضات جارية، ولا يقين بشأن مصير المخزون النووي الإيراني، ولا وجود لأي إشراف مستقل.
ويرى مسؤولون في الخليج أن هذا الوضع يجعل من هجوم إسرائيلي جديد على إيران احتمالا شبه مؤكد، في ظل اعتبار تل أبيب أن البرنامج النووي الإيراني يمثل تهديدا وجوديا.
ونقل التقرير عن علي واعظ، مدير مشروع إيران في مجموعة الأزمات الدولية، قوله إن إيران من المرجح أن ترد على أي هجوم إسرائيلي قادم بعنف أكبر من ردها في حزيران/يونيو الماضي، موضحا أن مسؤولين إيرانيين أبلغوه بأن مصانع الصواريخ تعمل دون توقف، وأنهم "يأملون في إطلاق 2000 صاروخ دفعة واحدة لإغراق الدفاعات الإسرائيلية، بدلا من 500 على مدى 12 يوما كما حدث سابقا"
وأشار واعظ إلى أنه لا توجد مؤشرات على أن هجوما جديدا بات وشيكا، لكن إسرائيل "تشعر أن مهمتها لم تكتمل ولا ترى سببا لعدم استئناف الصراع"، بينما تضاعف إيران استعدادها للجولة المقبلة من المواجهة.
وتواجه طهران عزلة غير مسبوقة عن الغرب منذ عقود، بينما عززت القوى الإقليمية العربية، مثل السعودية ومصر والإمارات، نفوذها على واشنطن وعلى الرئيس ترامب عبر التعاون الاقتصادي والعسكري، خاصة في ما يتعلق بمحاولة إيجاد تسوية دائمة لحرب غزة.
في المقابل، تحافظ هذه الدول على علاقاتها مع إيران لتجنب حرب إقليمية جديدة، حسبما أوضحت سانام فاكيل، مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في معهد "تشاتام هاوس"، مشيرة إلى أن تلك الدول تدرك قدرة إيران، رغم ضعفها، على زعزعة الاستقرار عبر قواتها الخاصة أو وكلائها في لبنان والعراق واليمن والخليج.
وقالت سوزان مالوني، مديرة برنامج السياسة الخارجية في معهد "بروكينغز"، إن "إيران أضعف مما كانت عليه منذ الغزو الأمريكي للعراق، لكنها ليست ضعيفة لدرجة أن تصبح غير مؤثرة"، مضيفة أن ضعفها الحالي يجعلها أكثر قابلية للتعامل بالنسبة لدول الخليج، لكنها في الوقت نفسه "أكثر خطورة بسبب يأسها".
وحذر مسؤولون إسرائيليون منذ حزيران/يونيو من أنهم مستعدون لضرب إيران مجددا إذا اقتربت من إنتاج سلاح نووي، وهو ما تنفيه طهران باستمرار، وأقر الإسرائيليون بأن برنامج إيران النووي تضرر لكنه لم يدمر بالكامل، خاصة بعد أن أوقف ترامب حرب يونيو قبل تحقيق أهدافها النهائية.
وقال هـ. أ. هيليير، الزميل في مركز التقدم الأمريكي والمعهد الملكي للخدمات المتحدة في لندن، إن "إسرائيل تريد ضمان احتواء البرنامج النووي الإيراني، لكنها لا تثق في المفاوضات لتحقيق ذلك، لذا يبدو أنها تعتزم توجيه ضربة جديدة، بينما تعيد إيران البناء وتستعد لجولة أخرى من الصراع".
وأضاف أن الدول العربية تعمل مع ترامب لضمان فرض قيود على إسرائيل، التي تسعى لترسيخ هيمنتها الإقليمية بعد تدمير غزة وحماس وحزب الله وإضعاف إيران. وأوضح أن المسؤولين العرب يشجعون محادثات نووية جديدة بين واشنطن وطهران، لكنهم لا يبدون تفاؤلاً كبيراً.
وأكد المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، في خطاب بمناسبة ذكرى اقتحام السفارة الأمريكية في طهران عام 1979، أن العداء الأمريكي لإيران "متجذر بعمق"، وقال إن "الطبيعة المتغطرسة لأمريكا لا تقبل إلا بالاستسلام"، في تصريحات فسّرتها الصحيفة على أنها تهدف إلى عرقلة أي مفاوضات جديدة مع واشنطن بشأن البرنامج النووي.
من جانبه، صرح وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي الأسبوع الماضي بأن الولايات المتحدة قدمت "شروطا غير مقبولة ومستحيلة"، تشمل محادثات مباشرة ووقفا كاملا وقابلا للتحقق لتخصيب اليورانيوم، مؤكدا رفض طهران لهذه الشروط، لكنها لا تزال منفتحة على مفاوضات غير مباشرة ضمن شروط محددة، من بينها ضمان عدم وقوع أي هجمات عسكرية أو ضغوط اقتصادية إضافية، وتعويضات عن أضرار الحرب، وهي مطالب ترفضها واشنطن، وحذر عراقجي في مقابلة مع قناة الجزيرة إسرائيل من "عواقب وخيمة" إذا نفذت أي هجوم جديد.
وأشار واعظ إلى أن الجمود الدبلوماسي داخل إيران أثار نقاشاً داخلياً حول الخيارات المقبلة، إذ يرى بعض المسؤولين أن على طهران تقديم تنازلات وعقد صفقة مع ترامب لتجنب الانهيار الاقتصادي، بينما يفضل آخرون المواجهة، معتبرين أن التعامل مع الرئيس الأمريكي "أمر مستحيل" بعد انسحابه من اتفاق 2015 وقصفه مواقع إيرانية دعماً لإسرائيل أثناء مفاوضات سابقة.
واتفق الطرفان داخل إيران على أن مواجهة جديدة مع إسرائيل باتت حتمية، وأن البلاد تضاعف استعدادها لهذه الجولة أملاً في تحقيق "توازن جديد يمحو الشعور بضعفها".
ونقلت الصحيفة عن رافائيل غروسي، مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، قوله إن الوكالة تعتقد أن معظم مخزون إيران من اليورانيوم عالي التخصيب نجا من الحرب، لكن وضعه الحالي غير واضح في غياب التفتيش الدولي، مقدراً أن لدى إيران نحو 400 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المئة، وهي نسبة قريبة من مستوى تصنيع الأسلحة النووية.
وأشار واعظ إلى أن الاهتمام الإقليمي يتركز حالياً على الوضع في غزة، موضحاً أن السعوديين يسعون لتعزيز أمنهم عبر معاهدة دفاع مشترك مع باكستان وبتحقيق ضمانات أمنية أمريكية مماثلة لتلك التي حصلت عليها قطر، بعد الغارات الإسرائيلية التي استهدفت قادة من حركة حماس هناك، وهو ما أثار غضب ترامب.
وختمت سانام فاكيل بالقول إن تراجع إيران يُعد فرصة لدفعها إلى تقليص دعمها لوكلائها في المنطقة، مشيرة إلى أن "هناك نافذة محدودة لتنازلات إضافية من إيران الأضعف والأكثر عزلة، لكن الخشية تبقى من أن أي حرب جديدة بينها وبين إسرائيل ستجعلها أقل التزاما بالقيود السابقة".
