11.68°القدس
11.44°رام الله
10.53°الخليل
17.4°غزة
11.68° القدس
رام الله11.44°
الخليل10.53°
غزة17.4°
الأربعاء 04 ديسمبر 2024
4.59جنيه إسترليني
5.11دينار أردني
0.07جنيه مصري
3.81يورو
3.62دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.59
دينار أردني5.11
جنيه مصري0.07
يورو3.81
دولار أمريكي3.62

خبر: الإفراط في الترْميز

يتضخم الترميز ويتجاوز مساحاته الطبيعية كلما كان الواقع أشد إظلاماً وفقراً، فما لا يستطيع الإنسان تحقيقه من أحلامه يحوّله بديلاً رمزياً، وهذا ما حدث تباعاً في المراحل الأصعب من تاريخنا العربي، لهذا إن عز إنجاب البطل من رحم الحاضر، يلوذ الناس بالمقابر لاقتراضه منها، وأحياناً يذهبون بالخيال إلى ما هو أبعد كي يعولوا على القادمين، وهنا تزدهر صناعة الأبطال في الأدب والحكايات الشعبية . الترميز ضروري سواء كان سياسياً أو فكرياً، لكن له حدوداً إن تخطاها يحجب الواقع، فرفع الأعلام أو إحراقها هو ترميز للحبّ والكراهية، لكن إحراق علم العدو لا يعني إحراقه هو أو إلحاق الهزيمة به، وأحياناً لا يؤدي رفع مليون علم إلى نتيجة واقعية ما لم يكن هذا الحراك ذا رصيد فعلي في الواقع، وتقترن به ممارسات ميدانية، ويبدو أن المسافة بين الحلم والقدرة على تحقيقه تتسع أو تضيق تبعاً للقوة والإرادة، ويندر أن يتحول الحلم والواقع دائرتين متساويتي المحيط ولهما مركز واحد، لأن الإنسان فُطر على شهوة التجاوز والإضافة، وبالتالي عدم القبول بالأمر الواقع . وقد أدى الترميز، خصوصاً في بعده السياسي، دوراً مبالغاً فيه في حياتنا العربية خلال العقود القليلة الماضية، وأوشك أن يتحول إلى بديل للفعل، سواء من خلال الإفراط في التعويل على الكلمة العزلاء، أو انتظار معجزة يناط بها تغيير الواقع، لكن ما حدث مؤخراً وبنسب متفاوتة في واقعنا العربي، بشّر الناس بالخروج ولو قليلاً من دائرة الترميز إلى مجال الواقع الحيوي بكل أبعاده وتجلياته . فالكلمة لم تعد وحدها، بمعزل عن فعل يسندها ويمنحها رصيداً واقعياً، والخروج من أضعف الإيمان إلى متوسطه، ولا نقول أقصاه، بدأ بالفعل يمارس دوره في التغيير، وهذا بحد ذاته خطوات أولى نحو المجابهة والاشتباك مع كل أدوات الإعاقة والعصي التي تُوضع في الدواليب، لهذا سقطت مقولة ليس بالإمكان أفضل مما كان أو ما هو كائن، لأن الاحتياطي الذي كان مصادراً لدى شعوب مقيّدة، وتعامل كما لو أنها دون سنّ الرشد السياسي، أصبح الآن ممكن الاستخدام أو الاستدعاء على الأقل . والترميز بوصفه فلسفة، هو من صميم الثقافات الوطنية، ومن دونه يكون الواقع مهما بلغ من الثراء والقوة والتماسك، ناقصاً، لكن خطورة الإفراط في استخدامه كبديل من الحراك الفعلي، يقابلها تفريط بوعي أو من دون وعي بالواقع ذاته، فما يتطلب دفاعاً باسلاً عن فكرة أو وطن، لا يكون بديله على الاطلاق أي تعبير رمزي مجرد . ونحن هنا لا نفاضل بين الترميز، خصوصاً ما يتعلق منه بالأوطان والكبرياء القومية، وبين الممارسات، فهما في تكامل وليس في تناقض شرط ألا يسطو أحدهما ويتمدد على حساب الآخر . في العقود القليلة الماضية أشاع مناخ الهزائم والانسحاب من حلبات المواجهة مع الخصوم نمطاً من الترميز المجاني، بحيث أوشكت الرموز أن تنقطع وتنفصل عن المرموز إليه، لكن هذه الآونة الساخنة التي أيقظت الهاجع وفجرت المؤجّل، بدأت تعطي ما للترميز من نصيب، بحيث لا يكون بديلاً للفعل، أو حلم يقظة طويلاً يتحول إلى سُبات .