مع حلول الذكرى السنوية العاشرة لاندلاع انتفاضة الأقصى، كيف يمكن لنا فهم هذا التراجع على مستوى الروح الجماعية الثورية، ثم على مستوى التعاطي السياسي والميداني والإعلامي مع تعاظم تهديدات المستوطنين الصهاينة، وارتفاع وتيرة إجرامهم قولاً وفعلاً، والمرور مرّ الكرام على ما يتم تسجيله بشكل شبه يومي من أحداث قتل أو اعتداء داخل مدن الضفة! على مستوى ظاهرة الاستيطان فها نحن نكتشف من جديد أن الاستيطان ليس ظاهرة سطو غير شرعية على أراضي (الدولة الفلسطينية) وحسب، ولا حتى مجرد بؤر للتوتر يستحيل التعايش معها، بل هي في جوهرها ظاهرة تؤصّل للمشروع الصهيوني برمته في فلسطين، وتترجم فصول فكره القائم على اغتصاب الأرض وترهيب أهلها، والإبقاء على حالة تأجيج مشاعر الحقد والكراهية تجاه الفلسطيني، والتأكيد على أن النهج الدموي هو السبيل الأمثل للتعاطي معه مسالماً كان أم مواجهاً!. هذه العقيدة الدموية التي عادت إلى واجهة المشهد الفلسطيني مجدداً بوتيرة تتصاعد يوماً إثر آخر، كانت في مراحل ومحطات سابقة تتحجم وترتكس تحت وقع ضربات المقاومة الموجعة، وخصوصاً تلك الموجهة لجنود الاحتلال ومستوطنيه داخل مناطق الضفة خلال السنوات الأولى لانتفاضة الأقصى، والتي أحدثت توازناً في الرعب، بل سجلت تفوقاً للمقاومة في معادلته، وصار المستوطن بموجبه يتهيّب سلوك الشوارع المحاذية للمدن الفلسطينية، بل يعاني من الخوف والفزع حتى خلال سيره في الطرق الالتفافية ما بين مستوطنات الضفة ومناطق الـ 48. أما اليوم، وتحديداً منذ أن تجلى مشروع التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال عن حالة تجريم فلسطينية رسمية لأي فعل مقاوم موجّه للاحتلال أو للمستوطنين حتى لو كان بالحجر، قد بدأت معادلة توازن الرعب تختلّ وترجح الكفة لصالح الاحتلال، الذي لم يعد يبالي بإطلاق مشاعر وأيدي مستوطنيه لتنشئ تدريبات علنية على مواجهة الفلسطينيين وقتلهم، وهو مؤشر على أن المستوطنين سيكونون جزءاً من المواجهة في حال اندلاع انتفاضة جديدة أو حتى هبة مؤقتة. ولقد وعى الاحتلال هذه المعادلة، واطمأن إلى أن السلطة ليست بوارد السماح تحت أي ظرف بعودة عجلة المقاومة للدوران، والدليل الأحدث اختبار نوايا الأجهزة الأمنية عملياً خلال مسيرات (استحقاق أيلول)، والتي اجتهدت فيها هذه الأجهزة لمنع تسجيل أية حالة احتكاك مع الاحتلال، ولو بمستوى إشعال إطار في مناطق التماس، ورافق ذلك حملة اعتقالات لعدد من أنصار حماس (من فئة الشباب تحديداً)، معللة ذلك بالاعتقال الاحترازي خشية إفسادهم (سلمية) التحركات الداعمة لعباس. لقد نجحت السلطة بمستواها السياسي وأجهزتها الأمنية في تكبيل الإرادة الشعبية المناوئة للاحتلال، وفي إفساد الوعي من خلال تجييرها كل المنابر الإعلامية والتعبوية التي تهيمن عليها لتضخّ أوهاماً متنوعة حول خطورة الاشتباك مع الاحتلال، وأهمية التحركات السلمية في نطاق المدن فقط، ثم بعد كلّ هذا تدعي أنها تحضّ على المقاومة الشعبية وتنادي بها، رغم أن حراكها متراجع بمئات الخطوات عن مفهوم المقاومة الشعبية الحقيقية والتي تستوعب الاشتباك مع الاحتلال بالحجارة كما يحدث في قلنديا ونعلين وبلعين وغيرها، لكن ما يهمّ السلطة هنا ألا تنتقل تجربة هذه البؤر المحصورة إلى مناطق أخرى، وألا تتحول لحالة عامة تمتد إلى نطاقات أرحب. وهي في سبيل ذلك لا تتردد في اتخاذ أي إجراء أمني من شأنه تحجيم أي تحرك مناهض للاحتلال. المشهد هكذا لا يبدو متوازناً على الإطلاق، حتى لو عزلناه عن كل الظروف السياسية الأخرى والتي أصلاً يسجل فيها الاحتلال تفوقاً سافراً على شريكه الفلسطيني في عملية التسوية، ولعله لم يسبق أن كانت الحالة الفلسطينية بمثل هذا التواضع السلبي على صعيد الاستعداد النفسي للمواجهة، ففي عرف سلطة التنسيق الأمني.. حتى لو فرضت عليك المواجهة يجب أن تظلّ متمسكاً بسلمية خياراتك، ويجب ألا تتحول عن قبلة استعطاف العالم ولعب دور الضحية، لأن البديل سيكون وبالاً على سلطة تتنفس من رئة خنوعها وتنازلها عن حقها في المقاومة، ولو بالحجارة!.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.