كانت البداية مع مصطلح الإرهاب الذي سرعان ما تحول إلى مفهوم سياسي وأمني يعاني عدة التباسات، لهذا كانت الحيلة الإعلامية التي اخترعتها الميديا كي لا تتورط في تأويل المصطلح هي نسبة الإرهاب إلى مجهول، وأصبحت عبارة ما يُسمى بالإرهاب تتكرر على نحو لافت للانتباه فإن كان ما جرى هو ما يسمى الإرهاب فما هو الإرهاب إذن باسمه الحقيقي؟ الآن انتقلت العدوى ذاتها إلى الربيع العربي فأصبحت فضائيات ومنابر إعلامية في الوطن العربي تستخدم عبارة مماثلة لتلك التي استخدمت للإرهاب، وهي ما يسمى الربيع العربي . وكان هذا الاحتراز معناه الوحيد هو عدم تبنّي المصطلح، وادخار احتياطي ما لعدم المجازفة في هذا التبنّي . وإذا استمرت هذه المتوالية في نسبة ظواهر وأحداث إلى المجهول أو ضمير الغائب، فإن سوء التفاهم سوف يتفاقم ليبلغ أقصاه، لأن حروب المصطلحات تدار بأدوات لغوية أولاً، ونذكر للمثال فقط أل التعريف التي أدى حذفها من جملة الأراضي المحتلة بعد حرب حزيران إلى حذف نصف تلك الأراضي على الأقل، لأن العبارة البديلة وهي أراض محتلة تتيح للاحتلال أن يحدد المساحات التي يريدها تبعاً لهواه واستراتيجيته . وإن كنا سنصل ذات يوم إلى تكرار “ما يُسمّى” لكل المفردات، فقد نصل إلى عبارات من طراز ما يسمى الثورة وما يسمى السيادة وما يسمى الحب أو الكراهية يزدهر مثل هذا الالتباس في تحديد الأفعال ونسبتها إلى مجهول في أزمنة رخوة، ومائعة . وبلا تضاريس فكرية صلبة أو ذات حدود واضحة ومفروزة، والأرجح أن ابتكار صيغة ما يسمى قدر تعلقها بالإرهاب الهدف البعيد منه هو تبرئة دفاعات وطنية وإنسانية مبررة تاريخياً وأخلاقياً ضد الاحتلال بمختلف أنماطه . لكن هذه التبرئة تبقى في النطاق النظري والمجرد، إن لم نقل إنها مجرد افتراض والسّبب في هذا هو ما سماه كونديرا الروائي والباحث التشيكي المعادلة القانونية المقلوبة بحيث أصبح العقاب الجاهز يبحث عن جريمة وليس العكس . وعندما يسبق العقاب الجريمة يتيح لمن يدعون العدالة البحث عن أكباش تذبح لتفتدي غيرها! وهذه بحدّ ذاتها إشكالية تثير سجالاً لا ينتهي ليس هذا سياقه أو مقامه . وإذا كان مصطلح الإرهاب واضح الحدود والدلالة في اللغات الأخرى وبالتحديد الإنجليزية فإن الترجمة الحرفية تخلق التباساً معاً، فالإرهاب إخافة وترويع، لكن لا يتحدد هذا بالنسبة للمدنيين أو العسكريين أو المحتل . وهذا ما حدث مع مصطلح الربيع العربي الذي ترجم فورياً عن الربيع الأوروبي عام ،1848 ولدى المقارنة بين الربيعين تتضح لنا فروق ليست عابرة، ولا أدري لماذا يغفل من يقارنون بين الربيعين صدور البيان الشيوعي عام 1848 والذي كان جذر ثورة أكتوبر الروسية التي تحققت بالفعل بعد صدوره بنحو سبعة عقود، ولم تكن الحرب الباردة من حيث نشوئها وتصاعدها بعد ذلك إلا بسبب تلك الثورة وما انتهى إليه الاتحاد السوفييتي بما يشبه الإمبراطورية الأيديولوجية المسلّحة نووياً . إن حيلة (ما يُسمى) تريحنا من التسمية الحقيقية، وبذلك يصبح البقر كله أسود في الليل كما قال هيجل . والإفراط في استخدام الأفعال المبنية للمجهول يقابله على الفور إفراط في استخدام نائب الفاعل وفي الحالتين ثمة فرار من المجابهة وتحديد المواقف . هذه الحيلة ومثيلاتها في الثقافة السياسية من نتاج الخوف المزمن وفلسفة إمساك العصا من الوسط .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.