منذ الصغر، علّمه أبوه أنّ "الخربشةَ" على كتبِ إخوته الأكبر منه سناً سيعرضه للعقاب، وفي يومٍ بعد أن ذاق مرَّ العقاب على يدي أبيه لأنه لم يقاومَ تلك العادة،حرَّم أن يمسكَ القلم ويخطَّ به أولى بصماته العقلية "الطفولية" على تلكَ المساحاتِ البيضاء التي ظنَّ للوهلة الأولى أنّها صمِّمتْ لخربشاته، ولمّا كبر وأصبح بعمرِ الربيع "بعقله" لا بسنِّه، أحب قراءةَ القصص القصيرة ، ولكنْ يا للمأساة ،فكلما رآه أبوه جالساً وبيده كتاباً يقرأه، قال له:" بس تفلح بدراستك، تبقى بتتثقف". هكذا هدّم الأبُ شخصية الطفلَ الصغير، فما وجدَ -الأخير- حلاً إلا أن يعودَ ليمضي وقتهُ في مذاكرةِ الكتبِ المدرسيّة وحفظها كما يُطلب منه ،كلَّ هذا تحت ظروفٍ نفسية تجبره على تخطي المعرفة الخارجية. وللمرحلة المدرسيّة قصةُ "قمعٍ" أخرىً مع صديقنا المثقف الطفلُ "قيدَ الإنشاء"،فما إن يدخلَ الأستاذُ الصفّ ويلقى السلام، حتى تبدأ أسئلتهُ العشوائية تطيح بالطلبةِ، فذلكَ الطالبُ يخبئ كتابه على قدميه حتى يسرقَ "خلسةً" إجابةً قد يكونُ سؤالها من نصيبه، وذلك جالسٌ وصديقه خلفهُ يلقنَه الإجابة، وآخر يُضربُ بشدةٍ على يديه لإهماله في "حفظِ دروسه". "الحفظ".. يا طلاب ، إن لم تحفظوا دروسكم لن تنجحوا، إن لم تحفظوا المنهجَ "كلمةً بكلمة" فلن تحصلوا على درجة التفوقِ والامتياز…"وبَّخ الأستاذ". فيخرجُ الطالبُ كل صباحٍ، حاملاً حقيبةَ "الأثقالِ" المدرسيّةِ على ظهره، يقيسَ الطريق ببعض كلمات المنهجِ ويرددها دونَ وعيٍّ، ويبقى الطالبُ "غارقاً" في مداركِ الحفظِ، وفي الامتحان، إذا بدّل الأستاذُ كلمةً في جملةٍ ما فتئ الطلبةُ يحفظون إجابتها حتّى تصبحَ الجملةُ كاملةً "غير مفهومة، غيرُ موجودةً في كتبِ المنهج". فيضطر هنا الطالبُ لأخذِ حبوب الذكاءِ أو يستعيضون عنها بحبوبِ زيت السمك ،كلّ هذا حتّى تأتيه الذاكرةُ على "حينِ غرةٍ" ولا يضيّع وقت امتحانه في التفكيرِ في الإجابة أو في محاولةِ فهمٍ لما كُتبَ في الورقة، وإن لم تُرجعْ تلك المحاولات الكيمائية المعلومات له، لن يحاول ترتيبَ ما ذاكره لأنها مهمةٌ صعبةٌ جداً خارجةٌ عن السيطرة حسبما تعلََّم في "المدرسةِ". وبعد الإنتهاء من المرحلةِ الدراسية "الثانوية"، يخرجُ الطالبُ إلى بيئةٍ مغايرةٍ تماماً عن بيئة المدرسة، يعتقدُ أنها بدايةُ الفرجْ، فيتغيَّبُ عن المحاضراتِ ويخرج "ليتنزهَ" هنا وهناكَ، ويعتمدُ بعد ذلك على حفظِ "محاضراته" بعد أن يصوّرَ ما كتبَه زميله، وعند تقديمِ البحوث العلميّة لــــ "أساتذة الجامعات"،يقدمون بحوثَاً "نتيّة" بعيدةً عن جوِّ المطالعة في الكتب وغير مستندة إلىٍ مراجعْ وافية، وفي المقابل لا يكلِّفَ "الدكتور" نفسه بسؤال الطالب عن مضمون البحث،ٍ ولا يطلبُ منهم تلخيصاً لما تم "حشوهُ" في ذلكَ الورق ليتبين للدكتور بأن الطالبَ يفهمْ ويعي ما كتب. وعند اندماج الطالب الجامعي في المجتمع الجديد، يرى نماذجَ مختلفةً من الشبابِ/الفتياتِ، فيجدُ ذلك الكسولَ الذي لا يملكَ همَّاً سوى النومِ وسماعِ الموسيقىٍ، ويجدَ آخر همومهٍ مرتبطةٌ بعالم النت والفيس بوكٍ، ويتعثر بآخرٍ مجتهدٍ "حافظٍ،باصمٍ" لمساقاته المطروحة ولا يتركُ كتابه إلا عند دخوله "للمرافقِ العامة" ،ويتعرف على شابٍ مثقّفٍ يتحدثُ بسلاسةٍ يقنعُ الآخرين بما يقول. لكنْ دعنا من فضلك نتوقفُ هنا لبرهةٍ.." المثقفُ" هل تعرف نسبة المثقفين الشباب في القطاع..؟ ( لا نريدْ أن نقولَ في فلسطين لأن الإنقسام الحاليّ قسّم حتى الإحصائياتٍ التي تعدُّها مراكز البحث والإحصاء فنحن تحت ضغوطٍ تضطرنا للحديث عن القطاع بشكلٍ منفصل عن الضفة..ما علينا) نعود للسؤال..!! عن نفسي أرى أن نسبة الشباب المثقفين في القطاع لا تتجاوزَ الـ (35) %، إن لم يخوننيٍ اعتقادي، وباقي النسبةُ يمثلها الفئة الشابة "الحفظة" لمناهجهم ومساقاتهم ومعارفهم. فلا بدّ بعد هذه المدة الطويلة التي تجاوزت الأعوام الستة عشر والتي قضيناها للاستقاء من المعارف أن نقدّمَ الشكر لكل من يستحقّهُ، فشكراً لكلّ من وضعنّا في فجوةٍ ثقافيةٍ "مريعة" ولم يضعوا معنا الحزم المعرفية الخاصة بالنجاة، فهم لم يضعوا معنا سوى حزمةً محدودةً من المعلوماتِ لا تضرّ ولا تنفع، فإن سكلنا في معارفِنا طريقاً آخرَ ضربنا الكفَ بالكفِّ وسألنا الناسَ حولنا كيف الخلاص ! وإن قابَلنا شيئاً مألوفاً لا نحاولُ أن نفكرَ في تخطيه أو تجاوزه بشكلٍ طبيعيّ فهو يا عزيزيَ القارئ لا يحتاجُ سوى كلمةً "شبيهةً" بما نحفظ. والآن وبعدَ أن كاد قطارُ "الثقافة" يفوتَنا، نضطر لأن نتحمَّل تبعاتِ أخطاء الكبارِ لأنهم حسبما يدّعونَ " على صوابٍ" ، ونحن مهما كبُرنا نبقى صغارُ لم نأخذَ من "معارفَهمْ" شبهِ المزيّفة ما يكفي لصقلِ شخصيتنا. نحن حتى الآنَ مخطئونْ..تعرفون لماذا..!؟ لأننا حتى الآن نحمّل وزارةَ التربيةِ والتعليم ومناهجها "الزخمة" مشكلة الثقافة المتدنية، مخطئون لأننا نحمّل أساتذتنا أسلوب التعليم الخاطئ، لأننا نحمّل دكاترةِ الجامعات خطأ تعليمنا مناهجَ البحث العلميّ التي لو تعلمنَاها جيّداً لصنعتْ منا شيئاً جميلاً في المستقبل. نحن حتّى الآنَ ندورُ حولَ النقطةِ نفسها،ونتحسّرُ على ثقافةٍ غائبةٍ برحتْ مكانَها بالخطأ، فهنيئاً لمنْ أدركَ كينونتهُ الثقافية متأخراً "ريحة البر ولا عدمه"، وهنيئاً لمن لم يدركَ الثقافةَ حتّى الآن وأدركَ عقلَه الفارهَ ويتحدثُ دوماً بأنه على صوابٍ مهما فعلَ.. وشكراً بحجمِ الكونِ لمنْ حرصَ على زراعةِ تربتِنا الثقافية بكلِّ حكمةٍ وإخلاص.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.