كعادته، قرأ فريدمان خطابي عباس ونتنياهو في الأمم المتحدة بنظارة طبية لها زجاجتان واحدة مقعرة والأخرى محدبة، وإن كان يستمع إلى الخطابين من خلال سماعة فهي أيضاً ذات طرفين أحدهما استريو والآخر همس يكاد لا يسمع! من يعيد الصراع العربي الصهيوني الآن إلى مربعه الأول هو نتنياهو بمؤازرة من أوباما الذي كان يخطب وخلفيته الانتخابات ويهود فلوريدا . إن كان المقصود بالعودة إلى نقطة البداية هو عدم خضوع الفلسطينيين لبوصلة أمريكية توقف سهمها عند جهة التفاوض، فقد جربوا لعشرات المرات، ولدغوا من جُحر التفاوض ألف مرة، وكانوا دائماً يعودون بخفي حُنَيْن وأحياناً حفاة، لأن التفاوض على طريقة الدولة العبرية معناه الوحيد هو المنولوغ، أي أن يتفاوض أولمرت أو نتنياهو وغيرهما مع أنفسهم فقط، فلا يسمعون غير صدى أصواتهم بالعبرية حتى لو كانوا يترجمون ما يدور في أذهانهم إلى الإنجليزية . إن الدمج بين خطابي عباس ونتنياهو كما صوره فريدمان هو أشبه بالمصطلح الطبي الذي يعني فيه الدمج تعطُّلَ الدماغ أو جزء منه، وبالتالي يحل الهذيان أو الصمت مكان أي كلام منطقي! يقول مثلاً إن نتنياهو كان يخطب كما لو أنه يقف أمام لجنة من حزب الليكود، أما عباس فكان يواصل الكلام كما لو أنه في جامعة الدول العربية، وهذا غير دقيق على الإطلاق ففي الجامعة العربية ثمة مستمعون من طراز آخر ونادراً ما يحل بينهم ضيف كما حلّ أردوغان، وما قاله عباس من مبتدئه إلى خبره لا يمكن أن يتوجه به إلى عرب يشاطرونه المشاعر ذاتها، فهو بقبوله الآخر والاعتراف بدولته كان يخاطب مجتمعاً دولياً ليس كله من العرب أو حتى من المنحازين إلى قضاياهم . بينما كل ما صدر عن نتنياهو يليق بالفعل بمحفل ليكودي، أو باحتشاد للوبي اليهودي في نيويورك، لأنه بقي رهينة موقف أيديولوجي وأدبيات تنتمي إلى منظمة أو حركة سرية أكثر مما تنتمي إلى دولة معاصرة . نقد فريدمان لأوباما الذي يعاني ضغطاً انتخابياً ولنتنياهو الذي يعود بعد كل جملة إلى جذر الصراع، يبدو منطقياً، لكن حين يعمّم هذا النقد على الخطاب الفلسطيني فهو يهدف إلى أحد أمرين أو كليهما . . الأول خلط الأوراق والملفات، والثاني إدانة مزدوجة لا يسلم منها الفلسطيني الذي ينزف منذ ستة عقود . إن خطاب عباس ليس أيقونة محصنة ضد النقد، وثمة أطراف فلسطينية منها حماس وغيرها من الفصائل والشخصيات المستقلة تحفظت على بعض الفقرات في هذا الخطاب، وهذا أمر عادي وبمعنى آخر يجب أن يكون عادياً، لأن الفلسطينيين في سعيهم إلى الدولة لا يتمنون تكرار نظام عربي غير ديمقراطي . لكن هذا النقد للخطاب يبقى في نطاق الاختلاف الكمي لا النوعي، فقادة حماس وصفوا الخطاب بأنه جيد ثم استدركوا ب لكن، أي ما يتصل بحقوق اللاجئين في العودة والتعويض والاعتذار . لا يصح على الإطلاق أن تُقرأ المواقف السياسية بنظارات طبية من هذا الطراز بحيث تكبّر الحروف وتصغّرها وأحياناً تمحوها .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.