يخطئ أيّ نظام سياسي في العالم إذا ظنّ أن هناك وصفة نموذجية تضمن لبقائه بوليصة تأمين، وقد يتوغل في الخطأ إذا ظن أن ربع الساعة الأخير من عمره كافٍ لاستدراك ما تبقى . ورغم وفرة الكتب والدراسات التراثية والحديثة عن فقه السلطة والحكم التي تملأ رفوفاً من المكتبات، فإن هناك عزوفاً غريباً عن تصفح هذه الكتب، كأن ما قاله محمد علي باشا لأحد مستشاريه عندما قدم له ترجمة لخمسة كتب منها “الأمير” لميكافيلي، وهو اذهب أنت واقرأها أما أنا فلي مهنة أخرى هي صناعة التاريخ وليست قراءته، قد تحول بعد قرنين إلى موعظة حفظها عن ظهر قلب من يعتقدون أنهم ليسوا بحاجة إلى قراءة التاريخ، رغم أن هناك عبارة مأثورة لجورج سانتيانا ينبغي لهؤلاء أن يتذكروها دائماً، إذا كانوا قد سمعوا بها أصلاً، وهي أن من لا يقرأ الماضي يكرر أخطاءه، وبالتالي يذهب ضحية هذه الأخطاء . وما كان للبشرية أن تصل إلى صيغة منطقية ومقبولة لفلسفة الحكم لولا المرور بمحطات عدة قد يعود أقدمها إلى ما قبل التاريخ، خصوصاً في الحقبة الإغريقية، لكن الأمثلة الأقرب بدأت منذ قرون عدة منذ الماغناكرتا البريطانية مروراً بالعقد الاجتماعي لروسو، وأخيراً ما ترسخ من تقاليد ديمقراطية وعقود سياسية مدنية تكفل الحقوق والواجبات . الاستغاثة في ربع الساعة الأخير لن تصل إلى مسامع الناس وذوي الشأن محلياً وعالمياً، ومن أرادوا خلال هذه الدقائق من الاحتضار السياسي أن يدخلوا إلى غرف الانعاش والعناية الفائقة وجدوا أنفسهم على الهامش، وقد فقدوا كل شيء إلا الذكريات، وهناك من استبدت بهم نوستالجيا هذه الذكريات فأقاموا فيها وجرفهم الطوفان وهم لا يدرون، ومن قالوا إن درهم وقاية خير من قنطار علاج ربما تصدوا إلى ما هو أبعد من المرض الذي يصيب الأفراد . فالوقاية أيضاً ممكنة قدر تعلقها بالسياسة ومصائر أنظمة وقادة، والآن لدينا أمثلة حية بل طازجة عمن فشلت قناطير الأسلحة والعقاقير في إنقاذهم لأن وقت الوقاية قد فات . والمسألة باختصار قد لا تكون أبعد من مقولة شاعت في بواكير النهضة الأوروبية هي “عش ودع غيرك يعش أيضاً” . ففي الأرض كما في الحياة متسع للجميع، لكن من انقادوا لما يسمى الخلايا الزواحفية في الدماغ واستجابوا للغرائز، هم الذين صنعوا ثنائية الاحتكار والإقصاء، لأن كل احتكار أو محاولة استحواذ تفضي بالضرورة إلى إقصاء آخرين هم في الحقيقة شركاء وأنداد في صياغة مصير جمعي . لكنّ للتاريخ وجهاً آخر، هو ما فضّل قراءته الحالمون بأبدية الاحتكار، ووجدوا بالطبع من زيّن لهم ذلك، وإن كانت الحواشي في هذه الحالات هي أول من يلوذ بالفرار ويقلب ظهر المجن لمن كان القادر والمعصوم، لكن المخدوع أيضاً . ورغم التفاصيل التي تغمر واقعنا العربي والتي تتولى الميديا بمختلف حقولها الهوائية والورقية رصدها، إلا أن الأهم من كل هذه التفاصيل هو المفاهيم والحاضنات الفكرية والاجتماعية لها . فما يحدث الآن تصاعدت وتيرته بحيث تحوّل من أحداث متفرقة إلى ظاهرة، يمكن وصفها بلا تردد بأنها ظاهرة عصيان وتمرد وإعادة معاينة وفحص لواقع تراكمت عليه القشور والصدأ والطلاء الزائف لعقود . ولا نظن أن هناك طبيباً يقدم تقريراً عن ميت من ألف صفحة كي يقول إن كل عضو وخلية فيه قد ماتت، فموت الدماغ يكفي، حتى لو كان هذا الموت سريرياً . وإذا أصرت بعض النظم على أن تعيش أعواماً تحت أجهزة التنفس الصناعي وتربط شرايينها بالغلوكوز السياسي فهذا شجن آخر . المهم، أن من يدير ظهره للتاريخ لابد أن يدفع الثمن .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.