لعلّ تعبير (إنجاز تاريخي) سيظل عاجزاً عن بلوغ مرامي المعاني الجليلة العظيمة التي تضمّنها الإعلان عن إتمام صفقة تبادل الأسرى بين حركة حماس والكيان الصهيوني، ولعلّ الإعلان عنها في هذا التوقيت بالذات هو أكثر من مجرد مكافأة لأسرى الحرية المضربين عن الطعام، ولعيون كاد الظمأ أن يطفئ أملها بتنسم هواء حرّ خارج حدود زنزانتها. لقد فاوضت حماس طوال السنوات الماضية بمشقة وجلد وصبر، وإصرار على إلزام الاحتلال بالخضوع لمطالبها، رغم أنها كانت قادرة قبل ذلك على الرضا بصفقة أقلّ شأنا، وما كان أحد ليلومها لو رضيت بها، نظراً للخصوصية التي اكتنفت عملية الأسر وكونها حدثت داخل فلسطين، ولن يكون متاحاً الاحتفاظ بالجندي مدة طويلة من الزمن. حين نقيّم صفقة شاليط، يجب ألا نتوقف فقط عند عدد أو وزن الأسرى الذين ستشملهم الصفقة، بل قبل ذلك عند الثمن الباهظ الذي تعيّن على حماس أن تدفعه مقتطعاً من كل مفاصل جسدها مقابل إصرارها على أن تقدّم للأسرى عربون وفاء بالفعل لا بالكلام، وبالتحرير لا بوعوده، ثم عند عشرات الأرواح الشهيدة التي قضت عقب العملية مباشرة وكجزء من فاتورة الانتقام الصهيونية، ثم خلال معركة الرصاص المصبوب التي كانت تهدف فيما تهدف إلى تحرير شاليط بالقوة وإعادته حياً إلى عائلته دون ثمن مقابل. وحين نقيّم الصفقة علينا أن نستحضر الضفة التي لم تكن حماس فيها بعيدة عن أداء جزء كبير من فاتورة الحساب، حيث تم حظرها وإقصاؤها واعتقال رموز شرعيتها وتغييبهم سنوات في سجون الاحتلال كجزء من الرد الصهيوني على عملية الأسر لجنديها المحارب! إذن، نحن أمام حالة ارتضت فيها حركة بكاملها أن تؤثر حرية الأسرى على مصلحتها كتنظيم، وعلى تجربتها في الحكم، التي جوبهت بالإقصاء والحصار ومحاولات الإفناء، على اعتبار أن استمرار احتفاظها بالجندي المأسور ظلّ شاهداً على وفائها للمقاومة وتقديمها على الاعتبارات الأخرى، مع كل ما يعنيه ذلك من استجلاب دائم للعداء الصهيوني والغربي. هل كان صدفة أن تنفذ حماس عملية الوهم المتبدد بعد شهرين فقط على تشكيلها أول حكومة لها؟ أما كان يسعها أن تؤجل المقاومة قليلاً إلى أن تؤسس لتجربتها الناشئة في الحكم والإدارة، وإلى أن تأخذ فرصتها السياسية كاملة؟ ولماذا كانت العملية الأصعب في تاريخ مقاومتها كلّها هي تلك التي أعقبت فوزها في انتخابات المجلس التشريعي؟ رغم أن شعار الإصلاح الذي قدمته بين يدي برنامجها الانتخابي كان يكفي ليكون حجة لتأجيل المقاومة، أو للامتناع عن تنفيذ عمليات صعبة ومكلفة وغير محسوبة العواقب في ذلك الحين! مثل هذه الأسئلة يندر أن تخطر ببال من ظلّ لسان حاله يقول إن حماس تخلت عن المقاومة وتنكرت لسيرتها، متناسياً أن احتفاظها بالجندي كل هذه المدة كان بحد ذاته شكلاً رفيعاً من أشكال المقاومة، ومتناسياً أنه كان بوسعها أن توفر على نفسها عناء خمسة أعوام لو رضيت منذ البداية بصفقة وفق المقاسات الإسرائيلية. حماس، ترتقي اليوم في وعي كلّ وطني حرّ، وتعيد للفلسطيني في كل مكان ومن أي لون ثقته بنفسه، وبجدارة مشروعه المقاوم ليكون نداً مناوئاً للمشروع الصهيوني برمته، لأن طوفان الأمل الذي سيغمر الشارع الفلسطيني في الداخل والشتات لن يقف عند أبواب عائلات من سيتم تحريرهم، بل سيظلّ ماضياً ليغسل أدران اليأس التي خلفتها مشاريع التسوية الموهومة، وليجدد القناعة بأن المقاومة حين تملك إرادتها تنجز وتحرر، وبأن لواءها حين يحمله المخلصون المؤمنون يبقى مشرعاً ونقياً ومتماسكا. شكراً يا حماس، شكراً يا كتائب القسام، وألف شكر لك يا غزة، أيتها الوفية الأبية، يا من فتئت تصدّرين لنا الأمل، وتترجمين للمستضعفين أحلامهم، رغم محنتك الشاقة، وحصارك المقيم
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.