افتقدت مواطن الخير عبد الرحمن، اشتاق إليه المسجد، وسألت عنه بعض المؤسسات التي تعودت على مبادراته الإيجابية وعطائه الكبير. لعل طرقاتي على باب بيته كانت استجابة لكل تلك التساؤلات، لعل عبد الرحمن مريض، لعله في ضائقة شديدة! كانت أكواب الشاي بالنعناع ما زالت مترعة، وأنا أحاول أن أخرج عبد الرحمن من دائرة صمته، وإضرابه عن الكلام، كانت عبارة: "لا شيء!" هي أقصى ما أستمع إليه منه، لكنني ما فقدت صبري، بل واصلت محاولاتي في ترقيق قلبه وكسر حواجز الصمت لديه بحنوّ وحرص، واستعنت على ذلك بعمق المحبة في الله بيننا، بدمعات سخية بين يدي الله ذرفناها، بقناعات فكرية ألفت بيننا، بخطوات في سبيل الخير سرناها... وأخيرا خرج عبد الرحمن عن صمته! وقال: - أبو فاحور هو السبب! - ومن أبو فاحور هذا؟! - ليتني أعلم من هو. - لا تعذبني معك يا عبد الرحمن، سكت دهرا وتكلمت لغزاً، من هو أبو فاحور؟ هل هو من أصدقائنا أم من خصومك؟ قال عبد الرحمن مبتسماً ابتسامة حزينة: أبو فاحور يا صديقي دويبة يعرفها المزارعون جيدا، تتمتع بالتهام جذور المزروعات، وتتركها للموت والجفاف، والمصيبة الكبرى في أدائها أنها لا تظهر في صورة الخراب، لأن الشكل الخارجي للمزروعات يبقى جميلا متألقا، مما يمنحها فرصة كبيرة في صنع خراب كبير، يؤدي إلى هلاك المزروعات بشكل مفاجئ، قبل أن يستوعب المزارعون طبيعة ما حدث! قلت بألم وأنا أهز رأسي: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ"(يونس: 81). المزارعون أذكى مما تظن يا عبد الرحمن، أصبحت لديهم خبرة في نفوس الناس، ويميزون الخبيث من الطيب، ولا يصدقون كل فاسق جاءهم بنبأ، وأبو فاحور الذي تقصده من الناس صار مكشوفا لا يستطيع مواصلة الخداع، للناس عقول وأفئدة وعيون وآذان! قال عبد الرحمن: أصبح أبو فاحور يتشكّل في ثياب التقوى على طريقة ثعلب أحمد شوقي الذي برز في ثياب الواعظين، ومضى يسب الماكرين، ويحذر منهم! أنتم تظنون أن الفاسق له شكل قبيح، يدركه الناس إذا ما رأوه، ويعرفون مراميه...، لقد سجّل أبو فاحور انتصارات كثيرة في تشويه الحقائق والتلون بمليون لون! قلت مبتسماً: هي انتصارات مؤقتة، لأن حبل الكذب قصير، وإذا كان الله لا يصلح عمل المفسدين، كن على يقين "إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ"(التوبة: 120). قال بألم: لكن الأذى قد وصل، وأشد أنواع الأذى أن يكون على يد من تحب، أبو فاحور يمارس الغيبة والنميمة بشكل وحشي، ولا أستطيع أن أواجه ذلك، هل ينبغي علي أن أذهب لكل من شوهني عندهم وافتعل الأقاويل حتى أصححَ لديهم مرآته المهشمة؟! أي جهد أحتاج! وأي وجه لي يحتمل الدفاع بما يوحي بالرياء! أليست لدى العقلاء عقولهم؟! أليست لديهم آيات الله يتلونها آناء الليل وأطراف النهار عن الفاسق الذي لم تحدد الآيات شكلا خارجيا جميلا أو قبيحا له؟! ألا ينظرون بفراسة المؤمن إلى لحومنا الميتة في أفواههم، ودمائنا المتقاطرة من أسنانهم؟! قلت: أبو فاحور المغتاب النمام... قال مقاطعاً: لم يعد أبو فاحور تلميذا صغيرا في الشر يمارس الغيبة والنميمة وحسب، وإنما صار أستاذاً يؤلب على الشر ويفرّخ الدسائس ليعزز صدقه المزيف... قلت مقاطعا وأنا أصفق بيدي: برافو يا أبو فاحور!!! والله إنني أدرك الآن أنه قد نال منك، يا رجل قم واصل طريق الخير، ودعك من الترهات، أللناس تعمل يا عبد الرحمن حتى تخشى من سخط الناس؟! قم يا رجل ومحّض نيتك الخالصة لله، واسع إلى رضاه فرضاه هو الغاية التي تُدرك، ورضا الناس غاية لا تُدرك. يا رجل ماذا يضيرك لو حكم له الأتقياء بالظاهر، وحكم لك الله بالسرائر؟! قال عبد الرحمن والدموع في عينيه: لكننا بشر، وإن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن. قلت بحزم: لكن السعي في الخير والعمل الصالح لا ينقطع... أنت علمتنا ذلك يا عبد الرحمن، وانتصار الشيطان عليك بهذا الانكسار النفسي عذر لإخوانك الذين استمعوا لأبي فاحور ذي الشكل الخدّاع...، فيهم الخير لكنهم أخطأوا، وفيك الخير لكنك ضعفت. مسح عبد الرحمن دموعه بيديه وقال: جزاك الله خير الجزاء يا أخي الحبيب.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.