18.57°القدس
18.3°رام الله
17.19°الخليل
23.43°غزة
18.57° القدس
رام الله18.3°
الخليل17.19°
غزة23.43°
الإثنين 14 أكتوبر 2024
4.91جنيه إسترليني
5.31دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.12يورو
3.76دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.91
دينار أردني5.31
جنيه مصري0.08
يورو4.12
دولار أمريكي3.76

خبر: توظيف المعرفة أيديولوجيًّا وسياسيًّا

تمارس الجماعات والأنظمة أسلوب التحشيد الجماهيري والتعبئة الأيديولوجية والتوعية الانتقائية؛ بهدف توظيف المعرفة لتحقيق أهداف سياسية، فتستحضر من الحقائق ما يؤكد رؤيتها الأيديولوجية والسياسية، وتسقط أو تخفي المعرفة التي لا تخدم هذه الأهداف، هذا الأسلوب تتورط فيه أيضًا أنظمة ديمقراطية، إذ تسخر أدواتها الإعلامية في صياغة الوعي الجماهيري في الاتجاه الذي تريده، فتضخم التركيز _مثلًا_ على جرائم أحد الأنظمة الدكتاتورية لتسويغ اتخاذ موقف سياسي ضده، وتتغاضى عن جرائم لا تقل وحشيةً يرتكبها نظام آخر؛ لأن مصلحتها السياسية تقتضي السكوت عليه. أسلوب استحضار النصوص والشواهد بانتقائية لا يتضمن إيذاءً مباشرًا للشعوب التي يمارس عليها؛ لأنه يستند إلى الإقناع الفكري والتأثير العاطفي، وغالبًا ما يقدم حقائق صادقةً، لكنه مع ذلك أسلوب غير إنساني؛ لأنه يفرض على الشعوب وصايةً فكريةً، ويحول بينها وبين المعرفة الشاملة، ويحرمها رؤية الصورة الكاملة بكل أجزائها، ولا يقدم لها فرصًا متكافئةً تتيح لها اختيار الرأي الذي ترتئيه مبنيًّا على معطيات كافية، بل ترسم لها مسارات محددةً يتحتم عليها السير فيها في ضوء عدم القدرة على رؤية مسارات أخرى. أسلوب التحشيد و(البروبوغاندا) هو سحر بالمصطلح القرآني؛ فحقيقة السحر الذي كان يمارسه فرعون ليثبت به دعائم عرشه كان الاعتماد على قوة الإيحاء والتأثير في وعي الجماهير: "يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى"، السحر هو التأثير في وعي الناس لإخضاع إرادتهم واسترهابهم: "سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم"، وهذا الدور تحديدًا هو ما تقوم به ماكينات الإعلام الأمريكية ضد شعبها، كما فصل في ذلك المفكر الأمريكي نوعام تشومسكي في كتابه "السيطرة على الإعلام"؛ فهذا الإعلام لا يستعبد الناس بالطريقة المباشرة المستفزة لكرامتهم والمحرضة لهم على الثورة، إنما بتشكيل وعيهم في الاتجاه الذي تريده النخبة الحاكمة، فتوهمهم أنهم أحرار يختارون رأيهم بأنفسهم، لكنهم لا يتفطنون إلى أن المصادر التي تشكل وعيهم تنتقيها لهم جهات سياسية، وأن هذه المصادر لا تتيح لهم حرية الفكر إلا في اتجاهات مرسومة. توظيف المعرفة في التحشيد السياسي والتعبئة الأيديولوجية هو ضرب من الوصاية على الناس؛ لأنه يفترض أنهم أقل وعيًا، وأنه لا يوثق باختياراتهم في الحياة، فوجب أن يكون هناك من يقرر لهم طريقهم، وهذا التسييس للمعرفة يعطي إشارةً على اهتزاز الثقة بالأساس الأخلاقي الذي نستند إليه؛ فنحن نريد للناس أن يظلوا بين جدران مغلقة؛ لأننا نخشى _إن خرجوا إلى ضوء الشمس الساطع وحصلوا على معلومات أخرى_ أن يهتز إيمانهم وانتماؤهم، وأن تدفعهم هذه المعرفة الجديدة إلى اعتناق موقف سياسي مناقض لمصالحنا. من حيث المبدأ إن التوظيف السياسي للمعرفة واستحضارها بانتقائية هو خيانة لأمانة العلم ولكلمة الحق؛ لأن العالم لا يهمه شيء سوى الاهتداء إلى الحقيقة، سواء كان ذلك في مختبرات الأحياء والفيزياء أم في حقول العلوم الإنسانية مثل علوم النفس والاجتماع والتاريخ وغيرها، إن العالم الحق يستعصي على "الأدلجة" والاحتواء، وليس من وظيفته حين تتبين له حقيقة علمية أن يدرس السياق السياسي، وأن يتنبأ كيف ستوظف هذه الحقيقة، وظيفته تتمثل في تبيان هذه الحقيقة: "لتبيننه للناس ولا تكتمونه"، فمن حرف هذه الحقيقة عن مواضعها وطوعها لهواه من بعد ذلك فإنما إثمه على الذين يبدلونه. تحدث الله عن مرض إنساني أصاب بني إسرائيل، وهو مرض عام يصيب أي قوم آخرين، وهو الاستحضار الانتقائي للعلم وأدلجته وتسييسه بما يخدم الأهواء: "تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا". ضرر "أدلجة" العلم ليس روحيًّا وحسب، بل له ضرر سياسي أيضًا؛ لأنه يحكم على أبناء المجتمع بالبقاء رهن طريقة واحدة في التفكير، وبرؤية جزء من الحقيقة فقط، وبذلك تحرم المجتمعات نفسها الرؤية الشاملة التي يبنى عليها قرارات صحيحة، وتظل هذه المجتمعات مخادعةً لنفسها تعيش على الوهم المريح؛ فالمعرفة الانتقائية تعني استحضار الشواهد على فضائل الذات وميزاتها، وفي المقابل استحضار كل الشواهد التي تعزز شيطنة الأعداء، ويؤدي هذا بالضرورة إلى الغفلة عن أخطاء الذات، ما يعني تفاقمها، كما سيؤدي إلى بخس الأعداء أشياءهم والتهوين من عناصر قوتهم، ما سيحرمنا تقدير قوتهم والاستعداد الكافي لهم، وهذا التفكير الرغبي الذي يشبه ما يسميه القرآن اتباعًا للأهواء: "وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ" يصرفنا عن الدراسة الموضوعية للواقع، وينتج مواقف عاطفيةً لا تستند إلى معطيات صحيحة. كتبت ذات مرة عن إيجابيات "المجتمع الإسرائيلي" مثل: العدالة الداخلية، والتداول السلمي للسلطة، والتقدم العلمي، فرد أحد الإخوة أن الحديث عن محاسن للاحتلال ليس مثمرًا، وأنه لا يخدم فكرة التحشيد ضده، لكن رأيي كان هو أن المعرفة مطلوبة لذاتها، والحشد يجب أن ينطلق من رؤية صحيحة متكاملة؛ حتى لا تستغرقنا العواطف ونحرم أنفسنا القراءة الصحيحة للواقع فتصدمنا النتائج، والتحشيد المبني على العاطفة خطر على العقل والحكمة، ونحن نريد أمةً مفكرةً قائدةً لا أمةً مقودةً، والمعرفة يتكامل بعضها ببعض ويصحح بعضها بعضًا؛ فالمشكلة ليست في أن نعرف إيجابيات أعدائنا، بل في ألا نرى الصورة كاملةً، وأن نتوقف عند معلومة مجتزأة