يتميز زمان أجدادنا عن زماننا ، خاصة في الاجتماعيات وأخلاقيات المعاملات ، رغم ندرة حملة الشهادات العلمية والأدبية مقارنة باليوم ، حتى أن الالتزام الديني لم يكن كحاله الآن ، إلا أن الفطرة السليمة كانت حكما بين الناس وتعاملاتهم وأوجدت أخلاقا غابت عن حياتنا نحن. في زمانهم ، كان للكبير شأن وللجار قدر ، قلما نجد ذلك في أيامنا ، كان الناس سواء ، يشاركون بعضهم في الأفراح والأتراح ، قالوا إن نساء الحي كُنَّ يجتمعن لعمل " مفتول " الفرح ، وإن غيَّب الموت عزيزا ، عمَّ الحزن الجميع قلوبا وبيوتا، على الأقل حتى تنتهي أيام العزاء. حدثتني جدتي " أم والدتي " ذات مرة ، أنه لما مات خالي غرقا قبل عشرين عاما ، أجَّل جاران اثنان زفاف ابنيهما ، لما بعد انقضاء "الأربعين" ، حسب ما اعتادوا ، غير أن الحاجة ذهبت إلى منزليهما بعد انقضاء العزاء ، تبارك لهم وتحثهم على بدء الفرح ، فهو سابق والميت " الله يرحمه " بل إنها بدأت " الطبل والزغاريد " في أحدهما ، فرحا لفرحهم وإن فقد القلب عزيزا أحبه كل من عرفه. هكذا كانت أفراحهم وأحزانهم ، أقول هذا وهم ليسوا من عائلة واحدة بل من "حي واحد "، كانوا في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. هذا التعاطف والتراحم فقدته عائلات كثيرة للأسف في زماننا فما بالك بالجيران ، فحدث ولا حرج ، وهاك مثال حي لم يمض عليه سوى أيام. توفيت حاجة صالحة ، تركت خلفها زوجها الصابر وقد حُرما نعمة الأبناء ، تزامنا مع استعداد جارهم لحفل زفافه ، وأقيم العزاء في مكان " الحفل " ، الذي للأسف لم يؤجل ، فكان في اليوم الثاني. فقط تم إقامة الحفل على بعد أمتار قليلة عند منزل صديق له ، على امتداد نظرك ترى بيت العزاء، فيما موسيقى الحفل الصاخبة التي كانت ترعد حتى قرابة منتصف الليل ، تعلو صوت القرآن الكريم هناك. قد يقول قائل أنه ربما استأذن الجار الحزين ، وهذا وارد ، وأنا لا أطلب إلغاء فرحه بالكامل أو تأجيله أضعف الإيمان أن يفرح بتواضع ، كان بإمكانه إلغاء الحفل الصاخب أو إقامته في مكان مغلق أو قل تأجيله حتى بعد زفافه ما المشكلة إن كان لا بد منه ، تقديرا لمشاعر جاره الذي فقد من كان يؤنس وحشته ويشاركه حياته بحلوها ومرها ، فالإنسان يحزن بفقد عزيز وبحاجة إلى يقف بجانبه . وحال الجارين هذين يتكرر كثيرا في زماننا الغريب العجيب ، الذي فقد كثيرا من الأخلاقيات حتى في أحلك الظروف وهنا واجب التنويه أن الخير موجود وأن الأمر لا يعدو كونه حالات شاذة قد تكون بقصد أو بغير عمد ، لا تعكس صورة عامة. حدث في زمن الخليفة عمر بن الخطاب أن أمسك الأبناء الثلاثة بقاتل أبيهم وجاءوا به للقصاص أمام عمر ، غير أن الرجل الذي أقر بفعلته طلب إمهاله ثلاثة أيام حتى يخبر أهله وقال إن لديه أمانات يجب إعادتها لأهلها . تساءل عمر بن الخطاب رضي الله عنه هل من أحد يضمنه ؟ ، بعد أن صمت الحضور قال أبو ذر الغفاري أنا أضمنه يا أمير المؤمنين ، فكان له ما طلب و وقاربت الثلاثة أيام على الانتهاء وكاد الصحابي الجليل أن يقتل بضمانه لهذا الرجل . وفى آخر لحظة قدم الرجل وعليه غبار الطريق وإجهاد السفر ، فقال عمر بن الخطاب للرجل ، لما حضرت وقد كنت تعلم أن الموت ينتظرك ؟؟ فقال الرجل : خوفا من أن يقال ذهب أهل الوفاء بالوعد . فقال عمر بن الخطاب لأبى ذر الغفاري : وأنت لماذا ضمنته وأنت لا تعرفه ؟؟ فقال أبو ذر الغفاري : خوفا من أن يقال ذهب أهل المروءة فقال أبناء القتيل :ونحن عفونا وتسامحنا فقال عمر بن الخطاب : لما عفوتم وقد طالبتم بالقصاص ؟ فقالوا له: عفونا حتى لا يقال ذهب أهل العفو. فهل ذهب أهل المروة ؟ في زماننا.. وهل ذهب أهل الوفاء ؟ وهل ذهب أهل الفضل ؟ وهل ..وهل... إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ..فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا ..فلو فكر كل إنسان كما فكروا جميعا لما كان حالنا هو حالنا اليوم .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.