ورغم أن الأداة الوحيدة في تلك الأيام، إضافة إلى الصحف، كانت المذياع الخشبي، إلا أن هذا الصندوق تحول إلى صندوق عجب، ومنه سمعنا في صبانا ما لم يقله شعراء النقائض جرير وفرزدق والأخطل، ومنه أيضاً سمعنا البيانات العسكرية الأولى الواعدة بتحرير الإنسان والتراب، لكن سرعان ما تحول هذا الصندوق الخشبي الناطق إلى ما يشبه “صندوق باندورا” مملوء بالشرور حسب الأسطورة الإغريقية . الآن، ثمة آلاف الصحف المقيمة والمهاجرة وآلاف أخرى من الفضائيات، بحيث لم يعد لذلك الصندوق مكان إلا في المتاحف ولدى تجار التّحف، لكن النّوبات لم تتغير لأنها ليست على علاقة بالتكنولوجيا، بل علاقتها حميمة وعضوية بالسايكولوجيا وكأن من شبّ على شيء شاب عليه أو أن الطبع يغلب التطبع حسب الرؤية الخلدونية المبكرة .وإذا كان لدى شعوب العالم أمثال متوارثة عن غلبة الطبع على التطبع . كالمثل الفرنسي القائل “اقشر الرّخام يظهر لك السّخام” أو المثل الروسي القائل “حك جلد الروسي يظهر لك السلافي”، فإن العرب لخصوا الأمر بعودة حليمة إلى عاداتها القديمة، وهذه النّوبة المحمومة التي نشهدها الآن هي عودة غير حميدة لما توهمنا أننا تخطيناه .