سواء أقرت منظمة التحرير الفلسطينية بذلك وتصرفت على أساسه أم لم تقر وتتصرف على هذا الأساس، فإن التاسع والعشرين من نيسان الماضي, يجب أن يدخل التاريخ الفلسطيني باعتباره اليوم الذي كان يجب أن يسقط فيه أي رهان فلسطيني مستقبلي على الولايات المتحدة الأمريكية. فالرئيس محمود عباس لم يخرج بخفي حنين فقط من جولة المفاوضات الأخيرة التي استمرت تسعة أشهر مع دولة الاحتلال الإسرائيلي, بل خرج خالي الوفاض من رهانه على الولايات المتحدة الذي استمر لمدة تزيد على عقدين من الزمن. فكل ما يمكن أن يعدّ "إنجازات" وطنية لمنظمة التحرير قد تحقق بالضد من الإرادة الأمريكية، مثل انطلاق الثورة الفلسطينية مرورًا باعتراف المجتع الدولي بالمنظمة "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" حتى اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بفلسطين دولة غير عضو فيها. وقد استمر الخط البياني للنضال الوطني الفلسطيني من أجل التحرر والاستقلال وتقرير المصير صاعدًا طالما اعتمد الوحدة الوطنية والمقاومة سلاحًا أساسيًا له في مواجهة حقيقة أن الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الإسرائيلي جبهة معادية واحدة لا جبهتين منفصلتين. ولم يبدأ الخط البياني للنضال الوطني بالانحدار إلا بعد أن بدأت منظمة التحرير في الرهان على وهم أنه يمكن الفصل بين الولايات المتحدة وبين دولة الاحتلال للمراهنة على وهم أن الوزن الدولي للولايات المتحدة وعلاقتها "الخاصة" مع دولة الاحتلال يمكن أن يجبرا الأخيرة على الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 لإقامة دولة فلسطينية عليها. وفي ضوء تجربة التوسط الأمريكي في إبرام الصلح المصري المنفرد مع دولة الاحتلال ثم انهيار الاتحاد السوفييتي وتفرد الولايات المتحدة في صنع القرار الدولي بعد ذلك، وانهيار التضامن العربي، وغير ذلك من عوامل تفكك الدعم العربي والإسلامي للمقاومة الفلسطينية، ربما يجد المراقب مسوغات لقيادة منظمة التحرير في حرصها على عدم استعداء القوة الأمريكية الأعظم في التاريخ آنذاك ومحاولة الرهان عليها لاستعادة بعض حق شعبها المغتصب في فلسطين. لكن بعد مضيّ ما يزيد على عقدين من الزمن من الرهان الفلسطيني على هذا الوهم لا يساور الشك أحدًا اليوم في أن الولايات المتحدة كانت وما زالت في جبهة واحدة معادية مع دولة الاحتلال، وفي استمرارها ضامنًا وممولاً ومسلحًا وحاميًا سياسيًا ودبلوماسيًا لها ما يحولها إلى شريك في احتلالها، وفي أن أي محاولة فلسطينية للفصل بينهما توهمًا في إمكانية تحوّل الولايات المتحدة إلى وسيط نزيه محايد للتوصل إلى حل عادل وشامل لإنهاء احتلال فلسطين وممارسة شعبها لحقه في تقرير المصير سوف تظل محاولة محكومًا عليها بالفشل بعد أن "تبخرت كل الوعود الأمريكية" لمفاوض منظمة التحرير وبعد النتائج "المفزعة والكارثية" لرهان المنظمة على تلك الوعود كما قال عضو تنفيذية المنظمة تيسير خالد. بعد أن تسرب إلى وسائل الإعلام تحذيره في مجلس مغلق من أن دولة الاحتلال في حال فشل "حل الدولتين" مهددة بخطر التحول إلى دولة فصل عنصري أو إلى دولة لا "يمكنها أن تكون دولة يهودية ديمقراطية"، أصدر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في الثامن والعشرين من الشهر الماضي, بيانًا صحفيًا مهينًا نفى فيه أنه "يعتقد" أو أن يكون قد أعلن "في أي وقت، علنًا أو في مجلس خاص، بأن (إسرائيل) دولة فصل عنصري أو أنها تنوي أن تكون كذلك" كما قال ردًا على الحملة الشرسة الواسعة التي شنتها عليه الدوائر الصهيونية واليهودية المتنفذة في الولايات المتحدة مطالبة بإقالته أو استقالته واعتذاره لدولة الاحتلال، بالرغم من ثلاثين سنة قضاها في دوائر صنع القرار الأمريكي كان خلالها من أقوى الداعمين لدولة الاحتلال والمدافعين عنها حدّ أن يتبنى مؤخرًا مطالبة حكومتها بالاعتراف الفلسطيني بها "دولة قومية للشعب اليهودي". ويذكّر هذا البيان المهين لكيري بالتراجع المهين لرئيسه باراك أوباما في مواجهة رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو في مستهل الولاية الأولى لكليهما عندما عجز الرئيس الأمريكي عن الوفاء بوعده للفلسطينيين بوقف الاستعمار الاستيطاني للضفة الغربية لنهر الأردن وبوعده من فوق منبر الأمم المتحدة بدولة فلسطينية خلال عامين. إن التراجع المهين لكيري وأوباما أمام دولة الاحتلال يؤكد مجددًا أن القرار الأمريكي في الشأن الفلسطيني يظل مرتهنًا لدولة الاحتلال والحركة الصهيونية العالمية, وأن استمرار أي رهان فلسطيني على الولايات المتحدة سوف يظل حرثًا في البحر. في آذار الماضي حذر أوباما نتنياهو من أن الولايات المتحدة لن تعود قادرة على الدفاع عن دولة الاحتلال في حال فشلت جولة مفاوضات التسعة أشهر, لأنه "إذا اعتقد الفلسطينيون أن إمكانية قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيًا وذات سيادة لم تعد في متناول اليد، عندئذ سوف تكون قدرتنا على التحكم بالمضاعفات الدولية محدودة". لكن جولة المفاوضات تلك قد فشلت فعلاً وحزم مبعوث أوباما الرئاسي لها، مارتن إنديك، حقائبه وعاد إلى الولايات المتحدة ولم يعلن البيت الأبيض أو وزارة الخارجية عن أي خطط لعودته إلى المنطقة, وسط تقارير إعلامية تتحدث عن استقالته من وزارة الخارجية وعودته للعمل مع معهد بروكينغز. غير أن إدارة أوباما ومؤسسة الحكم الأمريكية تبدوان الآن مستنفرتين من أجل ما وصفه أوباما ب"التحكم بالمضاعفات الدولية" لمنع أي تحرك فلسطيني يمكن أن يجعل "قيام دولة فلسطينية ... في متناول اليد". فقد أعلنت معارضتها للتوجه الفلسطيني نحو الانضمام للمنظمات الدولية ووكالات الأمم المتحدة، وللاتفاق الفلسطيني على إنهاء الانقسام الوطني، وتحرك الجمهوريون والديمقراطيون في الكونجرس لتفعيل "قانون مكافحة الإرهاب الفلسطيني" الذي أصدره عام 2006 بحظر أي مساعدات أمريكية لأي حكومة وحدة وطنية فلسطينية، ليردد ممثل أوباما الديمقراطي في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، تد دويتش، كالببغاء ما قاله نتنياهو: إن "الرئيس عباس يقف الآن على مفترق طرق محوري ... فهل يريد السلام مع (إسرائيل) أم المصالحة مع حماس؟" لقد أعلن أوباما أن المفاوضين بحاجة إلى "وقفة" أو "مهلة" أو إلى ما وصفته المتحدثة باسم وزارة الخارجية جن بساكي بـ"فترة انتظار" قبل العودة " للتفاوض ثانية برعاية الولايات المتحدة، لأنه يوجد "باب واحد" تشجعهم واشنطن على دخوله كما قال أوباما وهو: "اللقاء ثانية للقيام ببعض التسويات الصعبة جدًا". ولم يتوقع أوباما أن يدخل المفاوضون ذلك "الباب" حتى خلال "الشهور الستة المقبلة"، أي أن "المهلة" التي ينصح أوباما بها يمكن أن تمتد أطول من ذلك، لا تفعل الولايات المتحدة خلالها شيئًا بانتظار استئناف "عملية" أثبتت عقم الرهان الفلسطيني على أمريكا فيها منذ انطلقت عام 1991. ومن المؤكد أن ترى دولة الاحتلال في هذه "المهلة" الأمريكية ضوءًا أخضر يطلق يدها في مواصلة استعمارها الاستيطاني الذي لم تستطع وقفه لا المفاوضات ولا الرعاية الأمريكية لها ولا رهان منظمة التحرير على أمريكا
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.