23.3°القدس
23.48°رام الله
26.64°الخليل
29.04°غزة
23.3° القدس
رام الله23.48°
الخليل26.64°
غزة29.04°
الجمعة 02 اغسطس 2024
4.83جنيه إسترليني
5.35دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.09يورو
3.79دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.83
دينار أردني5.35
جنيه مصري0.08
يورو4.09
دولار أمريكي3.79

الأسير المحرر ابراهيم المصري ..

خبر: كانتزاع الروح أو أقسى .. "مذكرات أسير"

ليلة مزعجة أمضيتها ذاك اليوم، لم تدعني الكوابيس ألتقط أنفاسي إلا قليلا، بينما استيقظت والعرق يتصبب من جسدي وقلبي يرتعش بلا سبب، بقيتُ أستغفر وأستعيذ بالله حتى تمكنت من العودة إلى النوم بصعوبة بالغة ولم ألبث حتى استيقظت مرة أخرى. في مثل تلك الأيام ألجأ إلى ظرفٍ صغير احتفظت به من إحدى الزيارات، أدركُ أنني كدت أمزقه من كثرة ما فتحت غلافه ولكنني لم أكترث، فصورة ابنتاي أميمة وسجود هي ما يمدني بطاقة كافية لاحتمال زنازين "نفحة" وقسوة السجان، هي ما تجعل القلب ينبض بالحياة يوميًّا رغم الموت الزؤام الذي يفرضه السجن على من فيه، هي الأمل والعزاء والمنعش الرئيس في حياتي الجامدة تلك. صحيح أنني أضعت كل سنوات عمركما دون أن أكون معكما، ولكنني يا صغيرتاي لم أستطع تجاوز الجسد الغريب الدخيل على أرضي دون انتقام، لم أقوَ على مجرد التفكير أن أقعد مع القاعدين وأتنسم هواء ملوثًا بحقد اليهود.. أميمة يا حبيبتي لا أستطيع نسيان النظرة التي علت وجهك قبل خمسة عشر عامًا حين اعتقلوني وأنت ابنة عاميْن فقط، ولا يمكن أن أعيش يومًا دون أن تجتاح مخيلتي، أما أنت يا سجود فاعذريني لم أتمكن من معايشتك في أجمل سنين عمرك، لا أن أحتضن طفولتك أو أداعب براءتكِ.. الآن كبرتما وأصبحتما فتاتين ولكن نسج الطفولة في ملامحكما لن أنساه ما حييت. في ذاك اليوم ظل جسدي يرتعش وقلبي ينبض بقوة أستطيع تلمّسها، تجاهلت الأمر وبقيت ألهي نفسي بأمور شتى وإن كان السجين لا يملك خيارات كثيرة في ذلك.. شيء غريب يحدث في القسم، مجموعة من إخواني الأسرى تبدو على ملامحهم خرائط من كلام وعبارات صامتة، كدت أستدرجهم كي يخبروني بها، ظلوا على هذا الحال ساعات وهم يتحدثون بجمل لا أفهمها ويتكلمون معي وأشعر بأن سهام حديثهم تتوجه إلي.. يتحدثون عن الحياة وزوالها والآخرة ونعيمها، وفضل الصابرين وبشراهم عند ربهم. حينها لم أقوَ على التحمل، فباشرت بسؤال أحدهم "هل من شيء تخفونه عني؟"، فقال آخر: "اسمع يا إبراهيم.. نحن نعلم أن السجن حياة أخرى على الإنسان، ولكنه ليس بمعزل عن الحياة الخارجية"، قاطعته بشدة : "تكلم ماذا هناك؟".. تنهد وتمتم بجملٍ طويلة اتخذها مقدمات لحديثه ولكنني لم أدرك منها إلا آخرها.. "عظم الله أجرك يا أخي إبراهيم.. ابنتك أميمة في ذمة الله". كأن خنجرًا غرسوه في قلبي وألوانًا من الآهات اجتاحت أنفاسي.. كأنهم سلخوا عني كل أشكال الحياة ودفنوا روحي مرة بعد أخرى.. كأنهم أعلنوا الموت على إبراهيم لا على ابنته.. كيف ولماذا وأين؟ بقيت الأسئلة والأفكار تدق ذهني وتطرق خلاياه.. أميمة طفلتي الأولى وفرحة عمري تغيّب هكذا ودونما وداع؟.. أتغادرينني يا سويداء القلب دون أن أرسم على وجهكِ نظرة أخيرة؟.. أتصبحين تعب الروحِ بعد أن كنتِ حياتها؟.. بالطبع لم تحملني قدماي وشعرت بدوارٍ تملّكني وأرهق عافيتي، أطلقتُ الآه من جوف صدري دون اكتراث لمن حولي وبدأ شريط الذكريات يلوح أمامي بتسارع مصحوب بأصعب ألمٍ فاق السجن والتعذيب والحرمان.. ولكن آيات كتاب الله بقيت تطرق أسماعي وكأن الله ينزل سلوانًا على قلبي في مصابي هذا وأي مصاب.. استغفرت الله وصليت ركعتين وأمسكت بمصحفي وشرعت بقراءة آياته تصبّرني تارة وتجرفني العبرات تارة أخرى.. بقيت على هذا الحال أيامًا بل أشهرًا طويلة وكأن وداعها يحدث كل يوم ويشق طريقه الجارحة في قلبي كل لحظة.. عزاءٌ أكبر كان لي حين علمت من العائلة في إحدى الزيارات أن أميمة أصابتها حالة نفسية بعد اقتحام الجنود الصهاينة لمنزلي فتفاجأتْ بهم وبأشكالهم الوحشية، وما كادت تكمل شهرًا بعد الحادثة تلك حتى توفاها الله وهي تعاني من أزمة نفسية رددت خلالها عشرات المرات "أريد الشهادة يا أمي، أتمنى أن أموت شهيدة".. لله دركِ يا صغيرتي، أحسبكِ شهيدة وأدعو الله أن يتقبلكِ كذلك..