من الصعب تخيُّل حال غزة اليوم وهي تتحول إلى معتقل كبير دون بحر، ولا يمكن التنبؤ بجواب السؤال: كيف يمكن لأهل غزة أن يحافظوا على قواهم العقلية أمام الطَرْق المتواصل على رؤوسهم طوال هذه السنوات دون شاطئ؟. لو اكتمل مشهد الأسلاك والأسوار وامتدت إلى الحدود الغربية لغزة لأصبحت الصورة قريبة من مخيمات الاعتقال والإبادة النازية، ولو لم تصدقوا ابحثوا خلف صور مخيم الاعتقال "اوشفيتز بيركينو"، مع فرق الزمن... والقاسم المشترك بين غزة و"اوشفيتز"، أن السجان يستخدم وسائل الموت البطيء، والقتل الجماعي. في جلسة صباحية على شاطئ البحر ورغم الطقس الشتوي، يمكن للمتأمل أن يرصد العلاقة الحميمة بين البحر والناس. حاول أن تجري التجربة... أن تخرج مبكرا إلى شارع الرشيد، مع الفلافل الساخن والشاي، اجلس وراقب الحياة وهي تستيقظ، كأنما يرش البحر رذاذا على وجه المدينة لتصحو، بعدما نامت مثقلة بهمومها، سوف تكتشف كيف أن الناس يبحثون عن الأمل في أحشاء البحر، هنا الصياد والمتريض، والمتجول، والبائع والعاشق... هنا الموظف الهارب من زوجته وأبنائه، والطالب الهارب من المدرسة، والسائق الهارب من الحملة المرورية، والمريض الهارب من قدره، والشاعر الهارب من الزحمة، والقط الهارب من الكلاب الضالة، والطائر الهارب من الصيد. كلهم يحتمون بالبحر، ويشردون بأبصارهم إلى الأفق، ويتساءلون: ماذا هنالك، خلف الزرقة؟. هم في الحقيقة يسألون عما يخبئ لهم البحر في الغد، فتلسعهم نسائم الصبح الباردة، لتنبئهم عن المستقبل. ولأن البحر أكبر شيء في القطاع الصغير، فهو الأقدر على استيعاب طموح وأحلام الغزيين، وهو أحد مفاتيح عبور غزة نحو العالم، لو بقينا مصممين أن نشق فيه طريقا ليغرق الحصار وجنوده. ولأن البحر كبير، تكبر معه قلوب الغزيين، فيتسع ليحمل الحب للعالم رغم الظلم الذي يتعرضون له. خلال لحظات التأمل تنقطع الوصلة الصوتية للموج، وتدخل على الخط أغنية صباحية من مذياع سيارة متوقفة على شارع الرشيد: شايف البحر شو كبير كبر البحر بحبك شايف السما شو بعيدي بعد السما بحبك نطرتك أنا ندهتك أنا رسمتك على المشاوير يا هم العمر يا دمع الزهر يا مواسم العصافير