حققت حركة حماس خلال مسيرتها الطويلة والتي تقترب من ربع قرن إنجازات متعددة نوعية وكمية، واستطاعت تحقيق قفزات ملحوظة على الصعيد السياسي والعسكري وكذلك الحضور الإقليمي، ويُعتبر أهم انجازاتها ترأُس حربة المقاومة الفلسطينية بعملياتها الاستشهادية ومنظومتها الصلبة، وما أضافته من نجاح نسبي كبير في المزاوجة بين السلطة والمقاومة، إثر نجاحها في انتخابات فلسطينية نزيهة، والسيطرة بعد ذلك على قطاع غزة والاحتفاظ به على مدار سنوات متتالية من الحصار القاسي والعدوان الإسرائيلي المتواصل. حماس في ذكرى انطلاقتها 24 تتنفس الصعداء بعد الثورات العربية وتغيرات المنطقة الجوهرية، وأهمها زوال نظام مبارك الذي أظهر لها العداء، وعمل باستمرار لتقويض حكمها، وحاول سحقها بالتعاون مع الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية في رام الله، فقد كان لنظام المخلوع دوراً رئيساً في حصار غزة وخنقها من جهة، وفي العدوان عليها من جهة أخرى فأصبح صخرةً ثقيلةً تُعيق تحركها وتقلل من أهمية انجازاتها وتشكل تهديداً حقيقياً على وجودهاً، وبزوال هذه الصخرة عن كاهلها، تستشعر حماس بمرونة أكثر وحركة أسرع، فقد اعتُبر مبارك ونظامه في حينه أكبر تهديد حقيقي لحماس بعد الاحتلال الإسرائيلي. التغيير في تونس أيضا قد يصُب في صالح حماس، ففي السابق حُرِّمت تونس على الإسلاميين والمقاومين، وتعاملت مع حماس بعدم مبالاة وكأنها غير موجودة، واعتُبر نظام بن علي أكثر الأنظمة تجاهلاً لحركة حماس فلم يطأ أرض تونس أي من قيادتها طوال حكمه، ولم يتم أي اتصال رسمي بين نظامه وحركة حماس حتى في أشد الأوقات قسوة " في حرب غزة". اليوم تونس تفتح أذرعها لحركة حماس ويسرح قادتها في الأرض التونسية كما يشاؤون، فلقد أثبت الشعب التونسي رغم قسوة الديكتاتور وعائلته أنه من أكثر الشعوب ارتباطا بالقضية الفلسطينية ودعما لمقاومتها، فأفرز قيادات ونظام سيعمل على تصحيح المسار مع حركة حماس. أما نظام القذافي غير المتوازن فلقد ذهب وانتهى لغير رجعة، فكعادته امتاز القذافي بتقلباته الشديدة مع القضية الفلسطينية فأربك الحسابات الوطنية ولم يتعامل برؤية واضحة وكانت طلباته كثيرة وحساباته الخاصة والنفسية معقدة، وخوفُه الدائم من الولايات المتحدة وحِسه الكوميدي وصداقته مع مبارك جعله عبئاً ثقيلاً على المقاومة والقضية برمتها. وبعد سيطرة الثوار تتجه ليبيا لإفراز نظام داعم للمقاومة الفلسطينية، ومتعاط بإيجابية مع حركة حماس وحكومتها في غزة، والمأمول أن تمثل طرابلس للفلسطينيين عمقاً استراتيجياً هاماً، فمنذُ اليوم الأول للثورة الليبية وهي ترفع شعارات مؤيدة لحق الفلسطينيين بتحرير الأرض وتحقيق المصير، وسميت بعض كتائبهم الثورية بأسماء فلسطينية تيمنا بغزة وقيادتها. أما الشأن السوري بالنسبة لحركة حماس فيعتبر الأكثر تعقيداً، فلا أحد ينكر ما قدمه نظام الأسد للمقاومة الفلسطينية ولحركة حماس على وجه الخصوص، فلقد وفر لها الحماية اللوجستية والسياسية وكان صوتها في النظام العربي القديم، ويشهد له موقفه في حرب غزة، لهذا يقع خصوم حماس بمراهنة خاطئة على التأثير السلبي على حركة حماس في حال انهيار أو زوال نظام الأسد، فأنا أستبعد هذا التأثير، فبالرغم من عمق العلاقة بين حماس والنظام السوري إلا أن العلاقة بين حماس والشعب السوري أعمق، فالسوريون لا يقلون عن نظام الأسد في وطنيتهم والتصاقهم بالقضية الفلسطينية وتبنيهم لخيار المقاومة وتحرير الأرض العربية، فإن بقي نظام الأسد أو ذهب فالقضية الفلسطينية باقية في الوجدان السوري. كما إن حركة حماس تعاملت بوطنية وأخلاقية عالية مع الملف السوري رغم الضغوط، فكان موقفها متوازناً مع المشكلة السورية الداخلية، وتعاملت بحكمة حينما جنبت نفسها التدخل في ما لا يعنيها ولا ينفعها لصالح أي طرف من الأطراف، مما سيعفيها من الآثار سلبية مهما كانت النتائج، ففي الوقت الذي رفضت فيه إدانة النظام ومهاجمته لم تقدم له دعماً وتأييداً كما فعل حزب الله، فموقفها هو الأسلم لها أمام الشعوب العربية، وللشعب الفلسطيني الذي دفع قبل ذلك ثمناً باهضاً جراء مواقف غير مسؤولة لا تُسمن ولا تُغني من جوع. لا شك أن الربيع العربي سينتج نظاماً إقليمياً جديداً ومغايراً للنظام العربي السابق، وسيشكل بيئةً داعمةً لحركة حماس وسيؤثر تأثيراً كبيراً على القضية الفلسطينية، ومن أبرز سمات هذا الربيع صبغته الإسلامية والقومية ودعمه لحق الفلسطينيين بتحرير أرضهم واستعادة وطنهم، معتمداً على قاعدة شعبية ضخمة، الأمر الذي سيفتح الباب واسعاً أمام حماس للانصهار بالنظام العربي الجديد بشكل فعال وإيجابي، فأمام الحركة فرصة لتحقيق مكاسب لها ولمشروعها الوطني، فالمعطيات الأولية تتجه نحو بلورة بيئة إقليمية حاضنة لحماس في المستقبل القريب، وشيئا فشيئا ستفك العزلة السياسية عن الحركة وسيتم صهرها على أساس أنها حركة ذات امتداد شعبي مقاوم من جهة، وأنها ممثلة للشعب الفلسطيني بنتاج صناديق الانتخاب من جهة أخرى، وغير ملوثة بالنظام القديم من جهة ثالثة. وأتوقع أن تتعامل معها النُظم الجديدة على أساس أنها الممثل الحقيقي للفلسطينيين، وسيتم الاعتراف بحكومتها والتعاطي معها بإيجابية، ولن يكتفي الربيع العربي بذلك بل سيمد يد العون لنظامها في غزة لإعادة بناء البنية التحتية وتقويتها اقتصاديا في الوقت نفسه لن يسمح بسهولة الاعتداء عليها. وإلا فانه سيواجه شعوبه الثائرة المرتبطة مصيرياً بالقضية الفلسطينية وبحركة حماس بشكل خاص ولن يقبل الجمهور العربي في ربيعه بأن تضرب غزة بالفسفور وتهدم البيوت وهو ينظر بلا حراك. وسيفتح النظام الجديد لحركة حماس الأبواب المؤصدة، وقد نشهد انفراجة حقيقية بعلاقة الحركة مع الغرب، بالاعتراف بوجودها وتعزيز دورها في أي ترتيبات قادمة، ورفع اسمها من قائمة الإرهاب، فلا يمكن للعالم الغربي أن يستمر بالفيتو في وجه حركة حماس، في الوقت الذي يرحب بالإخوان المسلمين في تونس ومصر وليبيا والمغرب. في المقابل على حركة حماس إدراك اللحظات التاريخية الحرجة التي تمر بها بعض الأنظمة الوليدة وعدم استعجال النتائج، وألا تُطالب بما لا يُطيقه البعض في هذه اللحظات، وألا تُحمِّل النظم ما لا تحتمل وتتوقع منهم ما لا يستطيعون، فنضوج الثمر يحتاج لوقت كاف، فالوقت من الآن فصاعداً لصالح القضية وحركات الصمود والمقاومة.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.