مثال ذلك صورة البوعزيزي التي أصبحت رمزا ثوريا، انتقل من حدود ميدانه الثوري الأول إلى ميادين أخرى على اختلاف تفاصيلها، فمرت الصورة هاهنا بداية بالمرحلة التماثلية أن وصفت شابا تونسيا من متوسط الشباب التونسي، هضمته ماكينة الدولة الاستبدادية الديكتاتورية مؤسساتها المجتمعية الفاسدة، والمجتمع المعطل والمفرغ، ولكن بنجاح الثورة التونسية. تم فتح فضاء الدلالة للصورة التماثلية للبوعزيزي، فأصبحت صورة رمزية، وصاحب ذلك الانزياح الصوري إخلال وصفي بالواقع وتفاصيله غطت عليه جمالية الإحساس بالصورة (فيما يعرف برحلة الأيقنة)، وانفتحت الصورة على متغيرات أخرى، قد تعتبر في ذاتها انتقاصا من معاناة وشهادة البوعزيزي، ومظلة يتم تحتها الكثير من العمليات الإستراتيجية والسياسية لتفريغ وتوجيه واحتواء المد الثوري العربي، كما حدث ويحدث في ليبيا، و التي ليس من المصادفة أبدا أن عمر الصورة التلفزيونية الثورية الليبية –إن وجدت- أقل كثيرا من غيرها من الساحات الثورية العربية، حيث أبدل الدكتاتور باحتلال، مما نزع أي قيمة عن أي احساس تولده الصورة الثورية الليبية. (وهنا نشير إلى بعض محاولات إخراج القيمة الميتافيزيقية الإنسانية للصورة من الساحة الثورية السورية عن مسارها القيمي الطبيعي إلى محاولات استنساخ النموذج الليبي). فبحسب توينبي في فاتحة المقال، نحن في الحقبة الثالثة، ولكن الفارق هاهنا أن المعارف وإن تطورت بسرعة، إلا أنها تمر بعملية تشكيل سريع أيضا في "توصيفها" صوريا، لذا كان نقل الصورة نوعاً من العلاقة الزمنية العابرة للتفاصيل المعرفية. حيث رفعت حالة السوقية التنافسية للصورة/السلعة من درجة المنافسة بين القنوات التلفزيونية في نقلها للأحداث تحت مظلة: السبق في التقديم، دون إتاحة الفضاء الموضوعي اللازم للتأكد من صحة المعلومة المتضمنة، جاعلاً من الحكم على صحة الصورة موضوعياً هماً أخيراً، لا يسمح به الوقت، ولنا في المدة الممنوحة للصورة التلفزيونية ومقارنتها بالصورة السينمائية زمنيا، والصورة الإخبارية منذ فترة ما قبل الإنترنت وفنون الجرافيك إلى الآن خير دليل. فعلى صعيد مهني، كان متوسط المدة الزمنية التي تستغرقها اللقطات السينمائية تتراوح بين ثماني ثوانٍ وعشر ثوانٍ، فإن معدل المدة الزمنية للصورة التلفزيونية لا يتعدى ثلاث ثوان ونصف في مجمل الصورة التلفزيونية (كمباريات كرة القدم و المسابقات التلفزيونية والبرامج الحوارية و غيرها). لذا فإن وقع الصورة شديد في مجال الأخبار التلفزيونية وزخمها قوي بين تحقيق هدفين (معولمين): تقديم أكبر قدر ممكن من المادة الإخبارية في أقل مدة زمنية لمواكبة تسارع الأحداث زمنياً، وثانيا إبعاد الملل عن المتلقي خوفا من خسارته لصالح قناة أخرى، مما يعني خسارة في المكسب المادي. وعن العلاقة بالتكنولوجيا، فقد يرى البعض -ولتلك النظرة وجاهتها- أن المادة المصورة جماهيرياً، و التي مكنت الجمهور من تسجيل الحدث عيانا بواسطة وسائل تكنولوجية بسيطة (كالهواتف النقالة و كاميرات اليد)، لها مصداقية، وبالذات إن كانت تمثل موقف النور في وجه الرصاصة، كما هو الحال في العديد من الساحات الثورية العربية، إلا أن مصداقية تلك الصورة لتفاصيلها الثورية لا يعني بالضرورة ولا يعكس مصداقية خطاب/نسق صوري ستتموضع فيه، لا يمكن أن ينفي انتقائيته للمادة المصورة جماهيريا بما لا يشكك من مصداقيتها وموضوعيتها، في انفصال عن أهداف الخطاب الإعلامي وأداته الصورة. ويقودنا ذلك إلى "النقل الحي" للحدث باعتباره توحدا بين الحقيقة و المعنى، حيث يندرج النقل المباشر تحت ما يسمى المسلمات والذي فيه يتوازى السرد مع بداية الحدث، فينسى المشاهد أن المسافة بين السرد والحدث (الصورة) هي مسافة "بناء معنى"، وليست مسافة "حقيقة"، وهنا يكون الجر للمشاهد جراً ناعما ولينا، عن طريق وجاهة الاطلاع والمشاركة الحية في الشهادة على الحدث/الصورة، تاركاً حيز تشكيل/تلقي/استقبال المعنى ملكاً لخطاب إعلامي سردي يقارب في بهرجته "الحقيقة" الصورية "الخاطفة للأبصار"، ليصبح للنقل الحي للحدث سحره، فتغدو فيه الصورة التي لا تأتي وحيدة مرادفة للواقع ومرجعاً له، تمارس تأثيرها فيه ايضاً، لا بشكل بحثي نقدي، بل بالإحالة. إن "الصورة" في فضائنا الإعلامي لا تحقق "الحقيقة" -بحكم استحالة تحقيق قيمة حياد الإعلام المطلقة وبالذات في عصر الصورة/السلعة المعولمة-، وحتى "بناء المعنى"، ليس هاهنا بناءا نقديا، إنما الصورة هي هنا إغراء حواسي عاطفي، هدفها تحقيق الاجماع حولها، بمنطق الخضوع للجماعة التي تنتمي الصورة -هرميا في مرحلة ما- لخطابهم، وتضغط نحو استنساخ الصورة النمطية، في أشكال صورية و لفظية تحرك الذاكرة الجمعية والمشتركة، أو لتوظيف حدث ما للمصلحة. ومن هنا يمكننا الإشارة إلى فضاءين ينزعان عن "مبنى المعنى" و"الحقيقة" المفترضين في الصورة الإخبارية والتلفزيونية فضاءهما وحياديتهما: 1. الفضاء الذي تتحرك في القنوات التلفزيونية (الفضائية والأرضية) العربية، والذي لا تزال فيه تابعة -في مجال الصورة- للوكالات العالمية المتخصصة ووكالات الأنباء العالمية، مما يعني استتباعا وارتهانا لفضاءات تلك الصورة السياسية و الثقافية و الحضارية. 2. فضاء يتحدد بتاريخ عمليات التصوير والأيقنة العربية منذ بداية عهد الفضاء الإعلامي العربي، والذي لم يعد كونه أداة بناء الدولة الوطنية القطرية، وتمجيد الكراسي والسياسات، وعبادة الفرد، كأداة أيديولوجية للتجنيد والتعبئة والشرعنة للحكم لدى قطاع واسع من المشاهدين، بلغ الحد بهم "تقديس" النص الإعلامي بكامل أركانه، محولا الإعلام وإن كان أداة حداثية تتلبسها مقولة مرجعية العقل، إلى أداة سيطرة. مما ينتهي بالخبر من ناحية الصورة إلى كونه "موردا اجتماعيا" تؤدي آليات تشكيله إلى إنتاج سلسلة من القيود والمحددات التي تؤطر بدورها أشكال المعرفة التي يمكن إنتاجها وندعوها "واقعاً".