في مساء يوم شتوي دافئ ذو نسمات لطيفة تنعش القلب ،حيث تجلس الحاجة أم محمد في سوق رام الله للخضار في أخر السوق على اليمين تأخذ زاوية ترتب بها ما تبيعه من الخضار المختلفة التي تنبعث منها الروائح الزكية ، النعناع ذو الرائحة العطرية الفواحة والبقدونس ذو الأوراق الخضراء الجميلة والفاصوليا والخيار وغيرها الكثير ، والتي تستخدم في ترويجها عبارات جميلة لجذب زبائنها مثل(: تفضلي يا حلوة تفضلي يا أموره ). ترتدي أم محمد الزي الفلسطيني وبالتحديد ثوب قرى رام الله،) عاقدة منديلها المزركش بألوان تتشابه وألوان الخضروات التي تبيع ومحزمة بحزام خصصت مهمته لشد الوسط). عشرة أعوام قضتها أم محمد بين الخضروات التي أصبحت كأولادها، تعمل على تفقدها في الصباح كالأم التي ترعى أبناءها وفي المساء تودعهم على أن تلقاهم في يوم جديد آخر مليء بالحيوية والحياة. فاضل مطور(42) عاما من مدينة الخليل الذي يجاورها منذ عشرة سنوات، يصف الحاجة أم محمد بأنها (أنشط من بنات العشرون عاما). لم تكتفِ الحاجة أم محمد بهذا القدر من العطاء فأخبرنا منجد اليطاوي (21) عاما أحد الباعة في السوق ذاته أن أم محمد تقوم برعاية الأيتام من قوت ما تكسب وتجد بذلك متعة لا تصوف ورزق من عند الله حسب اليطاوي . تعشق أم محمد ذرات تراب الوطن، فمجرد وصولها إلى الأردن لزيارة والديها تجدها تلملم حاجياتها لتحث الخطى للعودة إلى فلسطين . [title]حبة النعنع بتبيع حبة البقدونس.[/title] عند اقتراب نفاذ محصول الحاجة من البقدونس، تقوم بإقناع المارة بشراء ضمة نعنع وضمة بقدونس، بدلا من شراء ضمتين من النعنع، على اعتبار إن حبة النعنع تبيع حبة البقدونس حسب تعبيرها. المستمع لحديث أم محمد يلمس حرصها الشديد على المال، إذ تضع ما تكسب في جسدان داخل كيس أخر تعلقه على صدرها لزيادة حرصها. إن لمسة الإنسانية الصادقة التي جعلت من الحاجة أم محمد ترفض إن تؤذي الآخرين في حين أنهم لم يترددوا في إيذائها هذه اللمسة بكل ما فيها من شفافية ونبل وصفاء هي التي تشدني وهي التي تدعوني إلى إن أقف أمامها، أحاورها واتاملها وأناقشها واستمد منها عزما وشجاعة وقدوة وقوة وأحث الآخرين كي يتعلموا منها هذا الدرس العظيم. [title]من نكبة لنكبة [/title] هجرت أم محمد وعائلتها من قرية أم برج في الجنوب الفلسطيني والمحتلة عام (48) إلى بلدة بيت أمر ولم تعجبها العيشة، واضطرت للعيش في مدينة أريحا وقاموا بتربية الماشية وكانت مصدر رزقهم إلى أن تزوجت . تخبرنا الحاجة أم محمد بأنها تكابد صعوبة الحياة من غير زوجها الذي تركها منذ عشرون عاما وسافر إلى الدنمارك وتزوج من غيرها. أنجبت أم محمد ثلاثة من الأبناء سعاد وسجى اللتان تزوجتا ومحمد الذي تزوج أيضا والتي تلقبه بالشيخ ،فهي حاليا تسكن مع ابنها ألا أنها كثيرا ما تذهب إلى ابنتها القريبة من السوق . وعلى عكس المألوف أم محمد التي تعطي كل ما تجنيه من حصاد يومها إلى ابنها محمد، رغم انه يعمل معلما للغة الانجليزية، يدفعها لذلك قلب الأم الحنون، إضافة لكونه ابنها الوحيد . أم محمد تحدت الفقر والظروف القاسية بالصبر والعزيمة، لكن صبرها لم يحتمل أسئلتي الكثيرة ، والتي كنت أسعى جاهدة للحصول على إجابة لها كي أقمع فضولي لكن محاولاتي المتكررة باءت بالفشل وقالت لي ":يا بنت حلي عني قلبي مسخم "
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.