بصياغات وأفكار شتّى كتب وتحدث الكثير من المفكرين والمثقفين قديماً وحديثاً عن ملامح الاستعباد التي يمارسها الطغاة على الناس في سبيل التمكين لسلطانهم، واستلاب كرامة المحكومين، وإلغاء القيم المعنوية الحاضّة على الشجاعة ومجابهة الظلم من قاموسهم النفسي. فالاستعباد هو علاقة تبادلية بين الحاكم والمحكوم، أو بين صاحب اليد الطولى والمستضعفين، فبقدر استعداد الطرف الثاني لتقبّل العدوان على كرامته وسلبه حقوقه بمقدار ما تشتدّ قبضة الطغاة، ويستشري الظلم والترهيب والإخضاع في مفاصل سياساتهم المتعددة. غير أن تحليل مكوّنات فقه الخضوع والبحث في أسبابه يقود إلى العامل الأهم الذي يغذيه ويعلي من نسبته في أوساط الناس على اختلاف مستوياتهم الفكرية، ألا وهو الخوف، حيث تتعدد ضروبه وتفريعاته من خوف على النفس إلى خوف على الرزق، أو خوف من الاعتقال والأذى، وأحياناً من الألم، أو من انعدام حياة الاستقرار، وغير ذلك، لكنه يظلّ متصاعداً في النفس البشرية إلى أن يتحول لخوف من اللاشيء، واستشعار الرهبة من تبعات الكلمة الحرّة أو الموقف الشجاع حتى لو كان دونما ضريبة حقيقية، وحتى لو كان ثمنه لا يتجاوز انزعاج السلطة الحاكمة وأجهزتها الأمنية!. ومع أن الطغاة في حقيقتهم جبناء، وزبانيتهم مجرد مرتزقة لا وزن لهم إلا بمقدار ما تصنع لهم النفسيات المرتجفة من هالة كبيرة، إلا أن وقوفهم على حقيقة أن غالبية الجمهور تحسب لهم حسابات مبالغ فيها ينعش فيهم السادية، ويعزز سطوة البطش والترهيب لديهم، فمن الطبيعي أن يتمادى الجبان في صلفه وانتفاشته الفارغة إذا ما شعر أن هناك من يخشاه أو يبالغ في تقدير قوته والخشية منها، لأن لديه من سمات الخسّة ما يؤهله ليتحول إلى وحش بشري، وخصوصاً حين يكون الطرف المقابل مسرفاً في خضوعه وفي إبداء الخوف، والذي يصبح سمة وحالة يرتضيها المرء كصفة ملازمة، ولا يجد حرجاً في إبدائها، ولا يعدّها سلوكاً معيباً، بل يبادر تلقائياً لخلع أوصاف تزيينية لها مثل الحكمة والحذر والتروي. الإفراز المضرّ لهذه السمة البائسة يبرز حين تكون ثقافة الخوف سائدة لدى من يشغلون مواقع المسؤولية في تيارات وتنظيمات يفترض أن رسالتها مناوئة لفكر التخلف والجهل والتبعية، لأنهم في هذه الحالة يهبطون بسقف مبادئهم وأهدافهم كي تناسب قاماتهم ومستوى نفسياتهم المرتجفة، رغم أن الأوْلى في أية نفس بشرية يغزوها السقم المعنوي أن يغادر صاحبها صفوف الريادة، حتى لا يكون وجوده عامل تخذيل وإضعاف للصفّ برمته، وحتى لا تصبح الفكرة مختزلة في حدود الحسابات الشخصية، أو نسخة عن النفسيات الواهنة التي تحرص على تقدّم صفوف القيادة، ثم لا تبالي بمدى التلف الذي ينال تلك الصفوف حين تفتقر للقائد الأنموذج، وللقدوة الجامعة رموز الرفعة والإقدام والإباء. أو لا تفطن إلى حقيقة أن استقامة صفوف الأتباع لا تتحقق إلا حين يكون حادي ركبها ملء موقعه، وناظراً إلى الأمام، بعيون واثقة وبصيرة ثاقبة، وعزيمة صلبة لا تهزّها صغار العواصف، ولا ترعبها تهويشات زبانية الطغاة، وقبضاتهم المرتجفة التي سرعان ما تنكمش أمام منطق القوة في أي جانب لها، حتى لو كانت قوة في حضور الشخصية أو في صدحها بالحق، أو في لامبالاتها بالأذى في سبيل الفكرة. ربما نحتاج لرصّ كم كبير من الأفكار في سبيل إقناع الناس بأن الامتثال لمنطق الخوف يكلّف صاحبه وفكرته أضعاف الخسائر التي يكلّفها التحلل منه، لكنّ ثمة آية من كتاب الله تلخص كل ما يمكن أن يقال لو وعيناها وتدبرنا الثراء المعنوي المتضمن فيها: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ، وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ". ولو تمعّنا في تلك القاعدة التي خطّها رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، وهي أن "ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك" لرأينا مقدار ابتعادنا عن فهم معادلة التحلل من نزعات الخوف البشرية القاصرة، وكيف أن النزوع الدائم - وغير المبرر في أحايين كثيرة - لما يمليه منطق الخوف هو في حقيقته مناقض لأصل من أصول الشريعة، قبل أن يكون بالغ الضرر على واقع الأفراد والمجتمعات، ومؤخِّراً لنهضتها.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.