ما من شك أن المتابع للثورات العربية يدرك أنها جاءت نتيجة ظلم وقهر عاش مع المواطن العربي سنوات طويلة على أيدي حكام لم يكن للشعب حق اختيارهم أو حتى توصيل صوته إليهم وانتقاد سياساتهم التي كرست الاستعمار الجديد وأباحت الأرض والإنسان لأعداء الأمة. لقد أظهرت هذه الثورات حقا تضعضع الحكام العرب وهشاشة أنظمتهم بوجه الغضب الشعبي الذي قتل الخوف في النفوس والهيبة من القتل في القلوب.. ولقد تقطعت بهم السبل وضاقت عليهم الأرض بما رحبت بعد أن كانت الأرض لهم ولعوائلهم وحاشيتهم..وأصبحوا يتخبطون فلا يهتدون سبيلا ويتلفتون فلا يجدون وليا ً ولا نصيرا.. وأزيحت من أمامهم المرآة السحرية التي كانت تظهرهم عمالقة وتهوّل على الشعوب خطرهم وانزاحت تلك الغمامة التي أظلتهم طويلا ًورسمت حولهم الغموض المخيف، فما عادت شعوبهم ترى منهم إلا ما هم عليه حقا: أقزام يرتجفون ويقعون على الأرض مع كل خطوة يخطوها شباب الثورة باتجاه القصور التي بناها الطغاة من عرق الشعوب ودمائها.. إننا نعلم أن ما حدث في تونس ويحدث في مصر وسوريا وليبيا ليس معزولا عن التأثيرات الخارجية ومخططات القوى العظمى في المنطقة.. وما يحزنني حقا أن شعورا قويا ينتابني بين الحين والآخر بأن البركان المنفجر في الشعوب العربية تجري حممه ومقذوفاته في طرق ومنعرجات مرسومة ومـُعدّة مسبقا من قبل الإدارة الأمريكية قبل الإنفجار بزمن، وأنّ هذه الحمم ستوجّه تلقائيا ً إلى غايات تريدها تلك الإدارة بعد أن تكون الحمم قد قطعت إلى تلك الغايات دروبا تقع عليها محطات محددة منها محطة قصر الرئيس العربي (السابق).. ما من شك أن دولة المايكروسوفت والرقابة على الانترنت كان لها علم مسبق بإرهاصات الثورة التونسية والمصرية في مراحلها الأولى، عندما بدأ الشبان ينشرون أفكارهم على الشبكة العنكبوتية ويتفقون على موعد انطلاق الانتفاضة.. حتى وإن أظهرت وزيرة الخارجية كلينتون صدمتها واستغرابها في تعليقها الأول بعد كل انتفاضة..لأن الحقيقة التي غابت عن كلامها وتصريحاتها قد اختبأت بين تلك التجاعيد التي تظهر ذلك الوجه الماكر. لستُ من مروّجي نظرية المؤامرة، لكنني أعلم أنّ الامبراطورية الأمريكية كرّست هيمنتها طويلا باتخاذ سياسات متحركة باستمرار وإبداء مرونة في استيعاب المستجدات..لقد تعلمت من أخطائها في العراق بعدما استقبل العراقيون بوش بالمفخخات وودّعوه بالأحذية..فابتكرت تكتيكا جديدا يتيح لها صفع الحكام العرب من بعيد بقفازات حريرية والإطاحة بهم عن طريق شعوبهم..وأصبح الأسلوب الجديد هو ضربَ الحكام بشعوبهم بعد أن كان ضربَ الشعوب بحكامها.. أن وجود سياسات عميلة ثابتة هو الحالة المثالية لأميركا ومصالحها في المنطقة، أما الحكام كأشخاص فهم في القاموس الأمريكي كحروف المطبعة التالفة، متى تكسرت أُبدلت بأخرى صالحة واستمرّ عمل المطبعة مادامت المطبوعات الناتجة تخضع لرقابة البيت الأبيض.. نعم إنها في الحقيقة ثورة أمريكية تنفذها الشعوب الجائعة والمغلوبة على أمرها بأسلوب يراد له أن يكون تتابعيا وغير منظم..ولا بأس ببعض المؤثرات المرئية من نهب وسلب مفتعل وقتل متعمد للسجناء في بعض السجون..فأكثرهم في هذه البلدان إسلاميون على أي حال. وليس أدل على ذلك ما عبر عنه المواطن المصري والتونسي بعد سقوط الطغاة أننا لم نحصد سوى مزيد من القهر والظلم والجوع واللاأمن.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.