ثلاثة عقود اكتويتُ فيها بنيران البعد القسري.. اشتقتُ أن ألامس قدم أمي التي بلغت من العمر 95 عامًا، وأن أحتضنها بين ذراعيّ حضن لا ينقطع وصاله، لأطفئ لوعة شوق طال انتظارها.. بقيت ذكرياتها عالقة في ذاكرتي وأبت أن تمحوها السنين من حياتي.. عشتُ كل دقيقة بدقيقة مع عائلتي وأنا داخل الأسر.. بداية بجولات التحقيق القاسية التي مررت فيها، والحكم القاسي الذي أرهق قلبي وهدم عمري. التحقتُ في صفوف حركة فتح في بداية السبعينات، اعتقلتُ عام 1976م، وحُكم عليّ بالسجن الفعلي لمدة ثلاث سنوات، لم أهدأ حينها وأنا أرى أرض فلسطين الحبيبة تُنتهك.. فعُدتُ وشكلتُ مجموعة مقاتلة شاركت بقتل عدد من الجنود الإسرائيليين الذين يأتون إلى قطاع غزة بصورة تجار، واعتُقلتُ وحُكم عليّ بالسجن المؤبد كباقي أفراد مجموعتي. وتنقلنا كثيرًا بين السجون.. زُرت الكثير منها.. لم تختلف طبيعتها أو شكلها.. الأمكنة تتغير والمسافات تتبدل لكنّ السجان واحد.. كان الذي يبعث على الصبر وجود رائحة أهل فلسطين في المكان من إخواننا الأسرى.. دائما ما كنا نُصبّر بعضنا البعض.. ويحمُل الواحد فينا همّ الآخر، وأملُنا جميعًا يتمثل في الخروج من حياة الغرف الصغيرة إلى ملامسة تراب الوطن. وعندما جاءت تلك اللحظة وسمعتُ بخبر الصفقة.. انفجرتُ بالبكاء وانتقلت مشاعري من مشهد لآخر.. أمر لا يُصّدق.. فقدتُ حينها القدرة على التعبير عن الفرحة في هذا اليوم.. ما كنتُ لأصدق أن الجدران الضيقة التي عشت فيها أصبحت هشة.. لم أتخيل أن الشبابيك المُظلمة أدخلت النور إلى قلبي لتحييه من جديد.. كان السجن في تلك اللحظة التي أتذكرها جيدًا أشبه بخلايا النحل لا تعرف السكون.. يسجدون لله شكرًا ويستمرون في دعاءهم لإتمام الصفقة.. لم ألتفت كثيرًا إلى الأجواء المحيطة حولي .. فقط جلستُ أفكر وأجول بنظري إلى خارج حدود السجن وأتخيل.. كيف سيكون شكل منزلي وعائلتي بعد أن تركتهما فترة طويلة من الزمن؟ كان همي الوحيد يكمن بالتفكير في لحظة اللقيا.. هل سأعرفهم؟ كيف سيعرفونني؟ هل سأحتضنهم أمام كل هذه الحشود التي كانت تنتظرني أمام المنزل؟ هل سأشعر بما كنت أسمعه عن دفء حضن الأهل؟.. وغيرها من الأسئلة الكثير الكثير. وبعد الوصول والإحساس بتلك اللحظات.. عاودت الأيام تؤلمني لما ذقته من عذابات وآلام في ذلك المكان البعيد الذي لا يشعر بقساوته سوى من دخله.. حزنًا على من لا زالوا بداخله.