29.44°القدس
29.21°رام الله
28.3°الخليل
31.13°غزة
29.44° القدس
رام الله29.21°
الخليل28.3°
غزة31.13°
السبت 03 اغسطس 2024
4.87جنيه إسترليني
5.37دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.15يورو
3.81دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.87
دينار أردني5.37
جنيه مصري0.08
يورو4.15
دولار أمريكي3.81

الأسير المحرر سليم الكيالي

خبر: ذكريات لا زالت تؤلمني "مذكرات أسير"

عند وصولي لأرض قطاع غزة لم أُفكر بشيء سوى أن الألم لا زال يشُق طريقه إلى أنحاء جسدي حزنًا على إخوة لنا ما زالوا يقبعون في سجون الاحتلال.. نحن خرجنا نعم.. لكننا لن ننساهم لأننا نعلم جيدًا مدى قسوة السجن والسّجان. بعد خروجي.. أيقنتُ بحق أن شريط السلك الشائك لا يبتعد مسافة كبيرة عن بيتي في حي الزيتون.. تذكرتُ حينها أنني كنتُ أتمنى أن أقف لأرسل لعائلتي طائرة ورقية وبعضًا من القُبل، آملاً أن تستطيع اختراق رادارات العدو وأسلاكه الشائكة، وتصل إلى وجنتيهم. كانت اللحظة الأصعب في ذلك السجن المعزول عن العالم الإنساني.. عندما نطقت محكمة الظلم بالحكم عليّ بـ29 عامًا.. بِتُ ليلتها طريح قلق لا يهدأ لي بال.. في تثاؤب شديد من كثرة النعاس.. أحاول النوم جاهدًا كي أسُكت صوت النطق بالرقم "29" الذي كان يتردد ويتكرر في أذني. وبعد فترة قصيرة.. لم أعد أُلقي بالاً للأرقام والكلمات.. حاولتُ إنهاء الأمر والتعود على الحياة من جديد.. أمضيتُ حوالي ثلاثة عقود في زنازين أشبه بالقبر.. أصارع عذاب الألم، وبطش القهر، وأنات الفراق!!. مرت ثلاثة عقود من الزمن, حملت في طياتها مناسبات وذكريات على مر الأيام, كانت في محصلتها سلسلة من العذاب المتواصل, لم أر خلالها ابنتي التي كانت حين اعتقالي جنينًا في رحم أمها بفعل سجان أحمق سلبني وإخواني وأخواتي من الأسرى الحق في العيش الكريم. ثلاثة عقود اكتويتُ فيها بنيران البعد القسري.. اشتقتُ أن ألامس قدم أمي التي بلغت من العمر 95 عامًا، وأن أحتضنها بين ذراعيّ حضن لا ينقطع وصاله، لأطفئ لوعة شوق طال انتظارها.. بقيت ذكرياتها عالقة في ذاكرتي وأبت أن تمحوها السنين من حياتي.. عشتُ كل دقيقة بدقيقة مع عائلتي وأنا داخل الأسر.. بداية بجولات التحقيق القاسية التي مررت فيها، والحكم القاسي الذي أرهق قلبي وهدم عمري. التحقتُ في صفوف حركة فتح في بداية السبعينات، اعتقلتُ عام 1976م، وحُكم عليّ بالسجن الفعلي لمدة ثلاث سنوات، لم أهدأ حينها وأنا أرى أرض فلسطين الحبيبة تُنتهك.. فعُدتُ وشكلتُ مجموعة مقاتلة شاركت بقتل عدد من الجنود الإسرائيليين الذين يأتون إلى قطاع غزة بصورة تجار، واعتُقلتُ وحُكم عليّ بالسجن المؤبد كباقي أفراد مجموعتي. وتنقلنا كثيرًا بين السجون.. زُرت الكثير منها.. لم تختلف طبيعتها أو شكلها.. الأمكنة تتغير والمسافات تتبدل لكنّ السجان واحد.. كان الذي يبعث على الصبر وجود رائحة أهل فلسطين في المكان من إخواننا الأسرى.. دائما ما كنا نُصبّر بعضنا البعض.. ويحمُل الواحد فينا همّ الآخر، وأملُنا جميعًا يتمثل في الخروج من حياة الغرف الصغيرة إلى ملامسة تراب الوطن. وعندما جاءت تلك اللحظة وسمعتُ بخبر الصفقة.. انفجرتُ بالبكاء وانتقلت مشاعري من مشهد لآخر.. أمر لا يُصّدق.. فقدتُ حينها القدرة على التعبير عن الفرحة في هذا اليوم.. ما كنتُ لأصدق أن الجدران الضيقة التي عشت فيها أصبحت هشة.. لم أتخيل أن الشبابيك المُظلمة أدخلت النور إلى قلبي لتحييه من جديد.. كان السجن في تلك اللحظة التي أتذكرها جيدًا أشبه بخلايا النحل لا تعرف السكون.. يسجدون لله شكرًا ويستمرون في دعاءهم لإتمام الصفقة.. لم ألتفت كثيرًا إلى الأجواء المحيطة حولي .. فقط جلستُ أفكر وأجول بنظري إلى خارج حدود السجن وأتخيل.. كيف سيكون شكل منزلي وعائلتي بعد أن تركتهما فترة طويلة من الزمن؟ كان همي الوحيد يكمن بالتفكير في لحظة اللقيا.. هل سأعرفهم؟ كيف سيعرفونني؟ هل سأحتضنهم أمام كل هذه الحشود التي كانت تنتظرني أمام المنزل؟ هل سأشعر بما كنت أسمعه عن دفء حضن الأهل؟.. وغيرها من الأسئلة الكثير الكثير. وبعد الوصول والإحساس بتلك اللحظات.. عاودت الأيام تؤلمني لما ذقته من عذابات وآلام في ذلك المكان البعيد الذي لا يشعر بقساوته سوى من دخله.. حزنًا على من لا زالوا بداخله.