الهجرة غير الشرعية، رحلة باتت أشبه برحلة إلى الموت في أحشاء أسماك البحر، والناجون منها قلة شباب لم يجد وسيلة للعيش الكريم في أوطانهم، بالإضافة إلى اصطدامهم بسوء الأحوال السياسية واقتصادية والاجتماعية، ففروا باحثين عن النجاة، حالمين بحياة أفضل حيث فرص العمل الوفيرة والمردود المالي الجيد قياسا مع اقتصاد بلدانهم المتدني. وظاهرة الهجرة ظاهرة عالمية تعاني منها كل الدول سواء المتقدمة كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أو وكذلك عدد كبير من الدول العربية. ويشرف على عملية الهجرة الغير شرعية "نصابون محترفون" هدفهم الوحيد هو سرقة ما يملكه ذلك المهاجر، الذي يضطر للخروج من بلده لأسباب اقتصادية في مجملها، ونادراً ما تؤدي الهجرة "الغير شرعية" الهدف المنشود منها بعد طول عذاب. [color=red]"فلسطين الآن"[/color] حاورت الشاب العشريني "محمد" اسم مستعار -تحفظ على ذكر اسمه لأسباب شخصية- للوقوف على عمليات الهجرة وآلية إتمامها ومعرفة من ورائها وما الدافع للقيام بتلك المجازفة المحفوفة بالمخاطر. يقول محمد :"فكرت في الخروج من قطاع غزة لأسباب اقتصادية بحتة حيث قضى الحصار الإسرائيلي على كل مقومات الحياة، فحاولت الخروج بطرق شرعية لكن الأبواب كانت مؤصدة، فاضطررت أن أخوض غمار المجازفة على الرغم من علمي المسبق بنتائجها الكارثية (..)ولكن بجبرك على المرّ إلا الأمر". ويضيف :" تواصلنا مع أحد المهربين يقطن بمدينة خانيونس، وهو مشرف على عملية التنسيق مع المهربين المصريين حيث أبلغنا أن إجمالي تكلفة العملية تبلغ أربعة آلاف دولار أمريكي". [title]بداية العذاب[/title] سلك محمد ومن معه الذين قدر عددهم بـ"400 مهاجر" طريقهم عبر أحد العاملين بالأنفاق الحدودية بين مصر وغزة إلى الجانب المصري (رفح المصرية)، واصفًا رحلتهم بـ"الشاقة" حيث أنهم اضطروا أحياناً للزحف داخل النفق مسافة 600م. وأضاف "بعدها تلقانا أحد المهربين وأقتادهم عبر الدروب الصحراوية والطرق الالتفافية لتفادي الحواجز الأمنية المصرية إلى مدينة العريش ثم عبر باصات نقل إلى مدينة الإسكندرية". وتعرض العشريني ومن معه خلال عبورهم صحراء سيناء إلى أحد "عابري السبيل" من بدو سيناء والذي هددهم بإبلاغ السلطات المصرية في حال لم يتم دفع له مبلغ من المال. بعد وصولهم إلى مدينة الإسكندرية الساحلية تم تسكينهم في الشقق القريبة من بحر الإسكندرية، إلى حين أن يأتي موعد رحلة كل فوج منهم والذي قد ينتظر الشخص المهاجر من أسبوع إلى أسبوعين, ومن ثم نقلهم عبر السفن "المهترئة" كما وصفها. يقول محمد: "تم إبلاغنا بتجهيز أنفسنا للسفر يوم الخميس، وللأسف كان المركب بدائي هش وغير متماسك وكان مكدس بالأطفال والنساء والشيوخ الذين ينوون الهجرة، وكان القارب لا يستطيع حمل أكثر من 40 شخصاً إلا أن عليه أكثر من 200 شخص". بعد أن اطمئن المهربين لأعدادنا تلقوا الأموال اللازمة بدأ القارب بالإبحار، حيث أنهم لم يكونوا يتحدثون مع بعضهم إلا بالألقاب مثل "أبو داليا". [title]صراع المهربين[/title] ويلفت "محمد" في هذا الجانب إلى أمر خطير قد يدور خلال الرحلة وفي عرض البحر وهو الصراع بين المهربين والتعرض لعمليات القرصنة. وبحسب مصادر أمنيّة مصرية، يدور صراع تجاري شديد بين عدة مهرّبين يسعَون إلى جني الأرباح المادية من تهريب اللاجئين الفلسطينيين بجانب الشباب العربي والأفارقة، ومن بينهم في مصر أبو حمادة السوري، وأم سليم، وأبو لبدة، حيث يدفع كل مهاجر حوالي 4,000 دولار للمهرّبين المتعددين كي ينقلوه إلى شواطئ إيطاليا. تعرضت السفينة التي كان يستقلها محمد إلى الاصطدام من سفينة أخرى بسبب أطماع المهربين, مما اضطر السائق للإسراع أكثر من السرعة المسموحة والتي تسبب في كسر "تروس" السفينة التي هي مهترئة أصلاً. [title]هنا بدأت المأساة[/title] ويتابع محمد "هنا بدأت المأساة الحقيقية حيث أصبحنا لا نسمع إلا الوعودات الكاذبة اليومية من قبل سائقي السفينة بأن "التروس" ستصل قريباً من قبل مهربين آخرين ويتم إصلاح السفينة وإكمال الرحلة حيث كانت عملية التواصل تتم عن طريق جهاز اتصال دولي يسمى "الثريا". ويكمل "استمر هذا الحال ثمانية أيام, حتى قارب على النفاذ كل ما بحوزتنا من طعام وشراب, تعرضنا خلال هذه الفترة لعملية قرصنة من قبل مهربين آخرين, والتي أكاد أن أجزم أنها تمت بالتنسيق مع سائقي السفينة أنفسهم". واضطر المهاجرين لتسليم ما معهم من ممتلكات تحت تهديد السلاح "إما القتل أو الرمي في البحر". وفي مساء اليوم الثامن قام المهربون بالتواصل مع مسؤول السفينة والذي يدعى "أبو داليا" وأبلغوه بأن يترك السفينة ومن عليها من المهاجرين ويجهز نفسه للمغادرة بمفرده ومعاونيه الثلاثة مما يعني أنهم سيتركون في البحر للموت". وعن سؤالنا عن طريقة معرفة هذه المعلومات الخطيرة لفت محمد إلى أنه قام برفقة بعض أصدقاؤه بالتنصت على الاتصال ومن المعروف أن جهاز "الثريا" ذو صوت مرتفع جداً. [title]إعدام دون شفقة[/title] ويشير محمد إلى أنه كان من بين أحد المهاجرين شخص مصاب بمرض "السكري" من مدينة خانيونس, ونظراً لعلو الأمواج والخوف من الغرق طلب سائقي السفينة منهم مبيت الليلة في الأسفل خوفاً من الأمواج, وترك المريض ليتم أخذه عن طريق زورق لمصر ليتم معالجته. وهنا كانت المأساة الحقيقية وظهرت القلوب المنزوعة الرحمة التي لا هم لها إلا "الدولار" حيث كبلوا المريض بأثقال حديدية ورموه في البحر, ليتفاجأ الجميع في الصباح بفقدان المريض". [title]بداية الفرج[/title] استغل "محمد" ومن معه في ساعات المساء فترة استرخاء "أبو داليا" وغرقه في النوم بسرقة جهاز "الثريا", وكما قلنا سابقاً أن محمد هو شاب خريج "تكنولوجيا معلومات" ويعمل في مهنة تصليح "الجوالات" حيث قام بالتواصل مع سفارة فلسطين بالقاهرة والذين بدورهم أبلغوا السلطات المصرية بالأمر وتم إنقاذهم وإرجاعهم لمصر". وعندما اقتربت البحرية المصرية من السفينة بدأ الركاب يلوحون بالأضواء من خلال كشافاتهم ليتم التعرف عليهم, وتم السحب السفينة من خلال البحرية المصرية والتواصل مع الجانب الفلسطيني لعودتهم. ويختم "محمد" حديثه بنصيحة وجهها للشباب بعدم التفكير في قضية الهجرة التي لا تعرف مصيرها, ومحاولة التعايش مع الواقع الموجود, مشيراً أنه لا يرغب في تكرار تلك التجربة مرة أخرى.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.