سأل خربوش صديقه عبد الرحمن: كيف أصبح منظما ومنتجا وفاعلا؟ قال عبد الرحمن: بالتحكم في النفس ورغباتها! قال: أنا أتحكم بنفسي، أنا أذهب كل يوم إلى عملي، وأعمل أشياء كثيرة مفيدة، و... قال عبد الرحمن: أول الطريق أن تكتشف ذاتك، وتدرك أنك وإن كنت تعمل إلا أنك تخربش كثيرا، واكتشاف الذات هو جزء من محاسبة النفس، وفق الأثر الطيب: "استفتِ قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك"! فالإنسان هو الأقدر على معرفة خبايا نفسه في كثير من الأحيان، لأنه هو من يضبط بدقة نيته وراء القيام بعمل ما، وذلك العمل قد يفسره الناس من الظاهر على نحو إيجابي، لكن نية صاحبه ليست إيجابية وهدفه البعيد ليس إيجابيا!! وتلك المعرفة للذات هي سيدة الموقف في الحكم على أشياء كثيرة. قال خربوش: نفسي تميل إلى رفض تحليلك المتعالي! ولكن عقلي وقلبي يصدقان ما تقول! قال عبد الرحمن: تلك هي بداية الطريق إذاً! تعجب خربوش وقال: أي طريق؟ لا تجعلني أغيّر وجهة نظري فأنا لا تشعر نفسي بأنها مخطئة، وأعتقد أنكم تفهمونني دائما خطأ. هز عبد الرحمن رأسه وقال بحنوّ: يا صاحبي، لا يوجد بين الناس من لا يخطئ، أو تحدثه نفسه بالخطأ، أو ترغّبه مشاعره وحواسه به، نحن لسنا ملائكة، لكن العظيم فينا من يضبط نفسه متلبسة بالخطأ أو الاتجاه نحوه، فيحاسبها، و(يفرملها)، ويعاقبها! تعجب خربوش وتساءل: يحاسبها ويعاقبها؟ أنت تعيش في مثاليات يا عبد الرحمن، هات لي بشرا على مرّ التاريخ حاسب نفسه وعاقبها، الناس يهربون من عقاب الآخرين فكيف يعاقبون أنفسهم؟ أنت تريد أن تحمّلني ما لا طاقة لي به! قال عبد الرحمن: محاسبة النفس ليست علنية؛ بل هي محاسبة ضميرية، قد تدفع المرء إلى إصلاح خطئه بالاعتذار لله، والاعتذار لمن ارتكب الخطأ معهم، وتغيير الخطأ بالرجوع عنه... وما بالك بمن حاسب نفسه أمام الناس بجرأة وقوة، ألم يؤنّب عمر بن الخطاب نفسه على الملأ، وقد وجدت نفسها على الناس، فلما رُوجع قال بما معناه: لقد وجدت نفسي نفسها فأحببت أن أرغمها التراب؟! قال خربوش: لا تسئ لعمر! قال عبد الرحمن مبتسما: ومن يسيء إليه؟ هذا عمر العظيم تحدثه نفسه بالخطأ فيعاقبها في لحظة حساب، فالتفكير بالخطأ أو ممارسته ليست مستحيلة الوقوع عند أحد، ولكن العيب أن لا يحاسب الإنسان نفسه، والقبيح أن لا يقوم بإجبارها على التصحيح، والاتجاه نحو السلوك الحسن. قال خربوش: كل ما تستطيعون قوله عمر عمر... ولكن عند التنفيذ نجد الجميع يتجاوز، ويرتكب خطايا لا أخطاء! قال عبد الرحمن: "كل نفس بما كسبت رهينة". قال خربوش معتذرا: سامحني، أنا لا أريد المناكفة، بل أريد الفائدة، لكنني أجد نفسي مندفعا في التعليق أحيانا دون رغبة مني! قال عبد الرحمن: الفرملة مطلوبة، ومن أحبه الله ألهمه الانتباه الدائم لمحاسبة النفس، في وضع نظيف من الأخطاء، متجدد الإخلاص. ألم تسمع بحكاية أبو نصر الصياد؟! قال خربوش مبتسما: وماذا كانت حكايته؟ قال عبد الرحمن: حدثنا الرافعي، قال: شكا أبو نصر الصياد لأحمد بن مسكين فقره وسوء حظه، فأخذه إلى شاطئ البحر، وطلب منه أن يصلي ركعتين، ثم قال له: قل بسم الله ثم ألق الشبكة، ففعل ليجد بين يديه سمكة كبيرة، باعها في السوق، واشترى بثمنها فطيرتين، إحداهما بالحلوى والثانية باللحم. وفي أثناء عودته قابل امرأة وطفلها يتضوران جوعا، فمنحهما الفطيرتين، مسلّما أمره لله! وما كاد يغادر المكان إلا وجاء تاجر غني غريب، أخبره أنه استدان من والده قبل عشرين عاما ثلاثين ألف درهم. ودفع إليه بالمال، فصار أبو نصر صاحب تجارة ومال، يتصدق بألف درهم في المرة الواحدة، فأعجبته نفسه لكثرة صدقاته، فرأى في المنام أنه يُحاسب، وترجح سيئاته على صدقاته، لأن الكثير منها خالطه العجب، وشهوة النفس، فيبكي على حاله، لكن يُؤتى بالفطيرتين، اللتين تصدّق بهما مؤثرا على نفسه، فتتساوى الحسنات والسيئات! ثم تُوضع دموع الأم الفقيرة وبسمة الولد، فإذا بهما ثقيلان كالصخر، فترجح الحسنات على السيئات!! وينادي المنادي: لقد نجا! لقد نجا!
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.