يستطيب سياسيون فلسطينيون من مختلف الفصائل، وإعلاميون وكتاب، القول إننا قد ودّعنا الانقسام، وإنه بات خلف ظهورنا، وإن المصالحة صارت أمراً واقعاً. غير أن الصورة القادمة من الضفة الغربية، وخصوصاً من سجون الأمن الوقائي، تقول شيئاً آخر، إذ يبدو أن قادة الأجهزة الأمنية أبوا أن يوقعوا التزامهم باستحقاقات المصالحة إلا على ظهور المعتقلين لديهم من ناشطي حماس وأنصارها، الذين تم ضرب بعضهم و(جلد) بعضهم الآخر، مؤخراً، على وقْع ابتسامات اللقاءات المتبادلة والتصريحات المغرقة في تفاؤلها بين حماس وفتح. ولكم أن تتخيلوا –مثلاً- أن جريمة بعض من اعتقلوا خلال الأيام الأخيرة لا تتجاوز كتابة شعارات على جدران قرية (تل) في نابلس في ذكرى انطلاقة حماس، أو هجاء السلطة على صفحات "الفيسبوك" كما حدث مع بعض معتقلي الخليل! ولكم أن تتخيلوا أيضاً أن الإفلاس الذي تمرّ به الأجهزة الأمنية بات يحملها على النبش في الدفاتر القديمة، واستجواب بعض الشباب أو الكهول على أمور حدثت في الماضي السحيق، وقبل أن يكون هناك انقسام أو حتى سلطة! لا أسوق هذا الكلام لأسلب المتفائلين بقرب التئام الصفّ فرحتهم، أو لأنغص على من يبحثون ملفّات (الشراكة) المختلفة حماسهم وهمّتهم. كما أنني لا أرمي إلى المبالغة في تصوير سوداوية المشهد، والإيحاء بأن سطوة القمع تبرّر التعايش معه أو الاستجابة لما يمليه من خضوع واستمرار في حالة الشلل التي تعيشها حماس الضفة منذ ما يقارب الخمسة أعوام، ذلك أنني أؤمن بأنّ الحرية تنتزع انتزاعاً، وبأن التسليم بسياسة البطش في الضفة هو خطأ تاريخي ما كان يجب أن يكون. لكنني أعود مجدداً للتذكير بمأساة المعتقلين السياسيين، بسبب ما لمسته عبر التصريحات الإعلامية من خلل في إدارة هذا الملف، وكيفية التعاطي معه وتوصيفه من الأساس. فالحديث هنا ليس عن أسرى على ذمة الخصام، ولا اعتقالات كيدية أملتها حالة الافتراق الداخلي، فلو كان الحال كذلك لسَهُل تبييض السجون من جميع المعتقلين بمجرد توقيع البنود الأولى لاتفاق المصالحة قبل نحو ثمانية أشهر، ولما تطلّب النظر في قضيتهم كلّ هذه المدة دون تقدّم فعلي، سوى الاستمرار في اعتقال المزيد، بحيث لا يكاد يمضي يوم إلا وتسجّل فيه حالات اعتقال جديدة في مختلف مدن الضفة. الاعتقال السياسي في الضفة كان ولا يزال التجلي الأبرز والأخطر لتفاهمات السلطة مع الاحتلال، واضطرار الأولى للاستمرار في تقديم قرابين الوفاء لمشروع التنسيق الأمني الذي تلتزم به التزاماً حديديا كونه يعدّ أحد أهمّ مشاريعها التمويلية، فبمقدار إنجازها في إنهاك المقاومة وتجفيف منابعها بمقدار ما ينتعش اقتصادها وتتدفق عليها خيرات الممولين. وأمام هذا الواقع، هل يجدي نفعاً أن نبدد جهدنا في معالجة مظهر الخلل ونتناسى جوهره؟! هل سيكون مجدياً أن يُبحث ملف المعتقلين وتتم المطالبة بتحريرهم مع إغفال المطالبة بإسقاط نهج التنسيق الأمني والحصول على ضمانات بذلك؟! وماذا لو تمّ الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين في نهاية العام أو في نهاية الشهر الأول من العام القادم وظلّ باب الاعتقال مفتوحاً وقابل لاحتواء آخرين غير المفرج عنهم في حال أخلّ أحدهم بالقانون الذي تمليه تفاهمات التنسيق الأمني؟! ألم يقل محمود عباس في أكثر من تصريح إننا لن نتوقف عن اعتقال من يهربون السلاح ويبيّضون الأموال؟! أم أن هناك من لا يزال غير مدرك بأن السلاح المقصود هو سلاح المقاومة (كون السلاح الوحيد المسموح به في الضفة هو المرخص إسرائيليا!)، وأن الأموال التي يتّهم الشباب بتبييضها هي في غالب الأحيان مخصصات الأسرى والشهداء التي تصادر ويعتقل من يتلقى فلساً واحداً منها، فضلا عن التنكيل بمن يوصلها؟! وسأقفز مباشرة للسؤال الأخير: ماذا سيحصل لو علّقت قيادة حماس جلسات المصالحة إلى أن يتمّ تبييض السجون والحصول على تعهّد بعدم العودة لممارسة الاعتقال السياسي؟ هل ستتعطل مصالح الشعب الفلسطيني العليا أكثر مما هي متعطلة؟! لسنا نطالب بالانتصار للمعتقلين السياسيين كأفراد، لكننا نطالب فقط بالإصغاء إلى الأصوات التي لا تنطق من فراغ حين تقول إن التعامل مع قضية الاعتقال السياسي باعتبارها ملفاً من ملفات متعددة يجري بحثها هو خطأ كبير، ومعالجة هامشية، لأن هذا النهج يهمّش أسباب الخلاف ويقزّمها، ويفرغها من مضمونها الذي هو خلاف بين نهجين لا فصيلين، وتعامل كهذا لا تستفيد منه سوى فتح إعلامياً وشعبياً وسياسيا!
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.