خيري منصور شاع في ستينات القرن الماضي مُعْجم من المصطلحات ثم توارى. وها هو يعود لكن بدلالات مغايرة بدءاً من الثورة والثورة المضادة والثورة الدائمة وأخيراً ثورة على الثورة، وفي ذلك العقد حيث كانت الحرب الباردة في ذروتها أعطى توازن القوى لهذه المصطلحات من المعاني والدلالات ليست الآن على قيد الحياة السياسية، فالثورات راوحت في تلك الآونة الحرجة بين ما هو مترجم حرفياً وما هو منسوخ آلياً وما هو في نطاق الاجتهاد والمحاولة، آخذاً في الاعتبار الخصائص المحلية وتاريخ الحراك الوطني في هذا البلد أو ذاك . وما يجري اليوم تداوله من المصطلحات التي يمكن وصفها بالفضائية غالباً ما يعاني غموضاً والتباساً، فالثورات جاءت بطبعات شعبية غير مسبوقة، حيث لا قيادات معلنة ولا دبابات تزحف إلى قصور الرئاسة ووزارات الدفاع ولا مجالس قيادية ثورية محددة الأسماء والأهداف وواضحة الرؤى . وإذا كانت الثورات كما تقول أهم العناصر التي أسهمت فيها من الشباب لا تزال قيد التشكل ولم تحقق سوى أقل القليل من أهدافها، فإن الثورات المضادة ليست واضحة المعالم وأوضح ما نسمعه عنها أنها من فلول النظم السابقة ومن المتضررين الذين يريدون من الناس التوغل في اليأس ومن ثم المقارنة بين ما هو راهن وما مضى، بحيث تكون حصة الأمن والأمان لما مضى وأسقط ويكون نصيب القلق والفوضى لما هو جديد، وما نسمعه عبر الفضائيات ووسائل الإعلام من أكثر الأسماء شهرة وتداولاً من المشتغلين في الميدان الاستراتيجي يزيد الطين بلّة، فما من جملة سياسية كاملة ومستوفية للمبتدأ السياسي والخبر التحليلي، والجميع يرمون أوراقهم في سلة تشبه إلى حدّ بعيد سلة أوراق اليانصيب . وإذا كان مفهوم الثورة الدائمة كمصطلح ماركسي أضيفت إليه جرعة تروتسكية قبل نصف قرن انتهى إلى أروقة وأرشيف الأكاديميات المتخصصة في العلوم السياسية، فإن ما يعنيه هذا المصطلح الآن هو شيء آخر . . ما دامت المسافة شبه ثابتة بين الشعار والقدرة على تلبيته أو ترجمته إلى قرارات فورية . وإذا أخذنا مصر نموذجاً وهي نموذج يفرض نفسه على نحو يتجاوز الإجرائيات، فإن ما رُفع قبل أيام من شعارات تطالب بإسقاط حكومة عصام شرف يكون ترتيبه الثالث على الأقل بعد المطالبة بإسقاط المهمة التي أنيطت بعمر سليمان كنائب للرئيس السابق، والمطالبة بإسقاط الفريق أحمد شفيق . وقد تستمر متوالية المطالب بإسقاط حكومات ورؤساء وزارات ومحافظين ورؤساء مؤسسات إعلامية وصحفية إلى وقت يتعذر تحديده، اللهم إلا إذا جاءت الانتخابات البرلمانية الموعودة في الوقت المحدد لها أو بعده بقليل . ما نسمعه على مدار الساعة حول غياب الرؤية أو المنهج يضاعف من القلق، فالأفراد مهما حَسُنَت نواياهم تتبدد جهودهم إذا لم تلتئم في سياق، وغياب المايسترو بغض النظر عن صفته أو موقعه عسكرياً أو مدنياً معناه العزف المنفرد والمتباعد وبالتالي غياب النّسق السيمفوني في العزف السياسي . إن أحد أسباب هذا الاضطراب والسّجال الذي غالباً ما يدور حول نفسه هو عقود البطالة السياسية في عالمنا العربي، فالناس أوشكوا على نسيان ما تعلموه وحلموا به زمناً طويلاً، لهذا فهم يلثغون بالكلام أكثر مما يفصحون به عما يريدون، وتغلب طريقة التعلم بالمحاولة والخطأ على أي استبصار لو احتكمنا إلى البافلوفية النفسية بعد تأويلها سياسياً .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.