الآن؛ بتنا ندرك جيداً كيف أن تسمية الحرب على غزة قبل ثلاث سنوات بالفرقان ما كانت عبثا، ولا مبالغة في إسقاط معاني غزوة بدر الكبرى على الحالة الغزية وهي تجابه آلة حرب مدمرة لا قبل لها بردّها وفق المقاييس المادية المجردة، لا سيما وأنها كانت محاصرة ومكبّلة ومحصورة في بقعة جغرافية صغيرة، بل كانت التسمية إلهاماً ربانياً للفئة المستضعفة التي حاربت بكل قوّتها حتى اللحظة الأخيرة وهي مدركة بأن الهدف كان رأسها وتحطيم وجودها، وبأنها إنما كانت تدفع ثمن مواقفها، وضريبة صلابتها وإصرارها على تقديم نموذج فلسطيني ممانع بالفعل لا بالكلام، وقادر على تحدّي كل ألوان الترغيب والترهيب التي تُبذَلُ لترويضه وتحويله عن أهدافه، وإبقائه تحت رحمة الاحتلال. (فرقان غزة) الذي فرّق بين الحق الفلسطيني والباطل الصهيوني، لم يقف عند حدود الاكتفاء بدحر المحتل وردّه عاجزاً عن تحقيق أيّ من أهدافه، فلم يرهق الدم والدمار عزيمة الغزيين، بل كانت الحرب محطة المحنة الكبرى التي خلّفت وراءها دروساً وعبراً عديدة، وعتْها قيادة حماس، وظلّت تلهمها وهي تواصل مسيرتها بُعيد الحرب، فما نقص تمسكها بثوابتها ولا ألجأَها اشتداد الحصار إلى الانقلاب على المبادئ تحت ضغط الفاقة وانعدام النصير. ولذلك، كان طبيعياً أن نرى بشائر الصمود تتوالى على غزة، ورغم أن صفقة (وفاء الأحرار) كانت المكافأة الأهم لغزة ولحماس ولأسرى الحرية، إلا أن ربيع غزة بدأ بالتشكل قبل عام من الآن، أي منذ انطلاق شرارة أول ثورة عربية، ثم تبرعمت زهوره عند سقوط نظام مبارك الذي كان شريكاً مباشراً للاحتلال في الانتقام من غزة، وفي ابتداع فنون حصارها سياسياً وجغرافيا واقتصاديا، ومع توالي انفراط حبات عقد الاستبداد العربي يزيد انتعاش غزة وتتوالى عليها خيرات العزة، فخذلان النظام الرسمي لغزة كان يدها المؤلمة على الدوام، وتنكّره لشرعيتها استجابة للإملاءات الأمريكية كان لوناً آخر من الحصار والإيذاء. أما اليوم، فها نحن نرى تلك المشاهد الفريدة التي ما كانت لتزور أكثر أحلامنا وردية قبل ثلاث سنوات، وغزة تحت النار، ومنقطعة عن جميع أشكال التواصل مع الخارج. فها هو رئيس الحكومة في غزة إسماعيل هنية يزور العواصم العربية ويستقبل فيها بحفاوة، حاملاً معه دروس الصبر الغزي، ومبشراً بعهد جديد سيعم المنطقة كلّها، وهو أمر يلمسه ويحسّه كلّ من تنفّس هواء الحرية بعد عهود الاضطهاد، وكلّ من أيقن أن للثبات ثماره بعد أن تُدفعَ ضريبته، وأن للحرية الحقّة مهرها، وأن للمستضعفين يوماً بل أياماً سينصفون فيها ولو بعد حين. غزة اليوم؛ هي صاحبة البريق الحقيقي، والممثل لألق القضية الفلسطينية، والمعبّر الصحيح عنها، فهي الجامعة كل مفرداتها؛ معاناة ومقاومة واستهدافا وثباتا، ولذلك ليس غريباً أن يظنّ بعض المتضامنين الغربيين من مسلمين وغيرهم أن عاصمة فلسطين هي غزة، وأن تصبح قبلة لأحرار العالم، وأن تهوي إليها أفئدتهم على اختلاف ألوانهم ودياناتهم، ففي غزة تتجدد معاني الانتماء لفلسطين القضية، لأنها أنموذج حيّ على الوفاء لأبجديات ذلك الانتماء، وعلى تحدّي المستحيل وكسر شوكته، وعلى استعذاب التضحيات في سبيل بلوغ الهدف. ولو تأملنا فقط في (الوهم المتبدد) من حيث المكان والزمان والآلية، ثم في ضخامة إنجازها اللاحق المتمثل في (وفاء الأحرار) فسنقف على اعتقاد بأن تلك البقعة سيكون لها شأن عظيم ومركزي في مشروع التحرير الأكبر، المهم أن يظلّ بنوها وقادتهم مستشعرين حجم تلك المسؤولية، ومقدّرين بأن اصطفاء الله لفئة بعينها في أرض الرباط لحمل مشعل الجهاد يترتب عليه مسؤوليات جسام وواجبات كبيرة، تليق بشرف هذا الاصطفاء، وما يتطلبه من مواقف وأفعال. وذاك ظنّنا بغزة وأهلها، وبقيادتها ومقاومتها.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.