شخصية جحا من الشخصيات الهزلية في الأدب العربي، وقد تراوحت الآراء حولها بين خرافتها وحقيقتها، فالبعض اعتبرها شخصية مجنونة هزلية، واعتبرها البعض شخصية عاقلة وواعية وتعرف بالدهاء والحنكة، وقد باتت هذه الشخصية عامة، وتهافتت عليها كل الشعوب، فصار لكل شعب جحاه الخاص به، وبقيت شخصية جحا بحماره لم تتغير بتغير شخصيتها . ونظراً للحكمة والعبرة من نوادره سأختزل بعضها لعلها تلقي الضوء على الحالة الفلسطينية من مصالحة جحا . ففي إحدى نوادره أنه ذات مرة استعار طنجرة من جاره وأعادها له مع طنجرة صغيرة، وعندما سأله جاره لماذا أعدت هذه الطنجرة الصغيرة، قال له إن الكبيرة قد ولدت صغيرة، ثم عاد بعد عدة أيام واستعارها ثانية، وعندما جاء جاره لاستردادها قال له جحا: إنها توفيت، وعندما لم يصدق الجار، قال له جحا: أتصدق أن الطنجرة ولدت ولا تصدق أنها قد توفيت . ومن النوادر الأخرى أنه اشترى عشرة حمير، فركب واحداً، وعندما عدها وجدها تسعة، ثم وجدها عشرة عندما نزل، وهكذا كل مرة، وقال أمشي وأكسب حماراً خير من أن أركب وأخسر حماراً، أما الثالثة وهي قصة الحقيبة التي تركها بجواره إلى أن جاء لص وأخذها، وفرح جحا وسار خلفه إلى أن وصل منزله فأخذها منه من دون أن يدفع أجراً . قد يتساءل البعض، هل من علاقة بين هذه النوادر وغيرها وحالة المصالحة الفلسطينية؟ أولاً، كما لكل شعب جحاه الخاص به، فالفلسطينيون أيضاً لهم جحاهم الذي يعبر عن الحالة الفلسطينية . والتساؤل ثانية ومن هو جحا الفلسطيني؟ والإجابة عن السؤال قد تكون افتراضية، وقد تكون حقيقية، وقد تنطبق على أهل القرار ومن بيدهم مفاتيح المصالحة، وقد تنطبق على شخص واحد، المهم أن هذه الشخصية موجودة فينا، وليست المشكلة في أن نبحث عنها، بقدر ما نبحث عن أساليب وآليات جحا التي تقف وراء تعثر المصالحة، أو محاولة توظيفها لتحقيق أهداف أخرى غير المصالحة . ومن النوادر أن نربط بين المصالحة وشخصية معينة متناسين أو متجاهلين أن المصالحة أولوية عليا، وأن الشخص مهما كانت مكانته وموقعه لا يعلو على أولوية المصالحة، بمعنى لو تم الاختيار والمفاضلة مثلاً بين الرئاسة، وهي أعلى منصب سياسي والمصالحة، فالاختيار بلا شك للمصالحة وليس إلى أي شيء آخر، ومن المفارقات الغريبة التي تعكس أسلوب جحا في التعامل مع الأشياء، أن المصالحة واضحة ولا تحتاج إلى تأويل أو تفسير، ومع ذلك نرى محاولات للف والدوران حولها، أو حسب التعبير الدارج وين أذنك ياجحا؟ المصلحة واضحة كقرص الشمس، ومع ذلك ندور حولها تارة تحت ذريعة الإصرار على رئيس وزراء معين، وكأننا لم نقرأ الثورات العربية التي أطاحت أسطورة الرجل الذي لا يقهر، أو الرئيس الذي لا غيره، وتارة بحجة البرنامج السياسي، والكل يعلمون أنه لا توجد حكومة من دون رؤية سياسية، أو تحت ذريعة حسابات سياسية ما زالت في عالم عدم اليقين، ونتناسى أن كل الخيارات الفلسطينية مرتبطة بخيار المصالحة حتى خيار الدولة والمفاوضات وخيار الحكم ذاته . وحال المصالحة مثل حال طنجرة جحا، فقد تم توقيع ورقة المصالحة وكأننا بذلك نقول أليس ذلك كافياً؟ ويتجاهل الكل أن المصالحة استعادة حالة سياسية غير موجودة منذ وقت طويل، وتحتاج إلى جهد وعمل طويل وصدق النوايا، وليس مجرد أن نوقع ورقة مصالحة، وأن نقول أين هي هذه الورقة؟ والمصالحة ليست مجرد حسابات للمكسب والخسارة على المستوى التنظيمي الضيق، والأفضل أن نوقع ورقة المصالحة ثم تبقى حالة الانقسام قائمة تماماً مثلما فعل جحا عندما فضل النزول من على ظهر حماره ليكسب عشرة حمير بدلاً من تسعة . المصالحة المطلوبة هي مصالحة الشعب الفلسطيني مع نفسه، ومصالحة مع القضية الفلسطينية حتى تستعيد أولويتها على الأجندة السياسية الفلسطينية والعربية والدولية . والمصالحة بكل الحسابات الوطنية أكبر من الأشخاص مهما كانت مناصبهم السياسية . وأخيراً المطلوب مصالحة فلسطينية من دون مسمار جحا .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.