18.08°القدس
17.86°رام الله
17.19°الخليل
23.17°غزة
18.08° القدس
رام الله17.86°
الخليل17.19°
غزة23.17°
الخميس 10 أكتوبر 2024
4.92جنيه إسترليني
5.32دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.12يورو
3.77دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.92
دينار أردني5.32
جنيه مصري0.08
يورو4.12
دولار أمريكي3.77

السلطة وسياسة الاحتواء المزدوج

الكاتب الدكتور المحامي معتز قفيشة
الكاتب الدكتور المحامي معتز قفيشة
معتز قفيشة

شئنا أم أبينا، أحببنا أم جزعنا، نحن مقبلون على انتفاضة شعبية ثالثة شاملة. لن يستطيع الشبان والفتيات الوقوف متفرجين على حالات الإعدام اليومي الإجرامي الذي يقوم به جبناء المستوطنين وإهانات محترفي الإجرام من الجنود الإسرائيليين المدججين بالسلاح. أعتقد أن الفرس قد فلت من عقاله وبدأ يشق طريقه نحو الحرية والكرامة. الشعب قد يئس من المسؤولين السياسيين والحزبيين ومن كلامهم وشعاراتهم وخطاباتهم الفارغة. يبدو أننا قد دخلنا في شكل جديد من الانتفاضة يشبه إلى حد ما الانتفاضة الأولى، ويجنبنا عسكرة الانتفاضة الثانية.

غير أن أكثر ما يثير الانتباه هو موقف السلطة، سواء في الضفة أو سلطة الأمر الواقع في غزة، "المحايد" تجاه ما يجري. هذا الموقف المحايد قد يكون هو الموقف الأسلم الذي لم ينتبه إليه الساسة الفلسطينيون في الانتفاضة الثانية. دخول السلطة في مواجهة عسكرية مع إسرائيل يعني تدمير مؤسسات السلطة، بوزاراتها وأجهزتها الأمنية والمدنية والسياسية، وهو ما سيلحق الضرر بالشعب الفلسطيني الذي بنى هذه المؤسسات طوال عشرين سنة. مجرد حياد السلطة واستمرارها في تقديم الخدمات التعليمية والصحية والاقتصادية والدبلوماسية والإدارية والقانونية للفلسطينيين هو شكل من أشكال المقاومة ودعم للصمود. هذا موقف دبلوماسي سيؤدي إلى عدم إعطاء إسرائيل أي مبرر لاستهداف السلطة ومؤسساتها. بهذا تحتوي السلطة إسرائيل وتقطع عليها سبل إضعاف الشعب الفلسطيني من خلال تقويض أسس الدولة الفلسطينية وتجربة الحكم التي عشناها، على الرغم من كل الملاحظات عليها، في العقدين الماضيين.

كما أن السلطة هذه المرة أحسنت في احتواء المتظاهرين والمقاومين، حتى اللحظة. فهي لم تقف في وجههم ولم تعتقلهم أو تمنعهم. الرئيس قال ونفذ عندما أوقف التنسيق الأمني بشكل فعلي، حتى لو كان هنالك اجتماعات رسمية بين مسؤولين من الطرفين. وفي الحقيقة أن السلطة لن تستطيع أن تواجه بركان الغضب الشعبي، حتى وإن أرادت، لأنها ستضع نفسها في موضع الاتهام وربما ستصبح مستهدفة من قبل الشعب ذاته ودون أي مقابل سياسي يمكن جنيه من خلال التفاوض مع إسرائيل. فالوقوف في موقف "المراقب" هو موقف جيد؛ فالشعب لا يريد دعم السلطة المباشر، ولكنه يرفض معارضتها. بهذا تحتوي السلطة المتظاهرين.
أتوقع، وأحبذ، أن يأخذ حياد السلطة دورا إيجابيا كما تفعل سويسرا في مواجهة الحروب والنزاعات الدولية: هي لا تؤيد أو تعارض أي طرف في أي حرب، لكنها تقف مع المنكوبين والأسرى والجرحى والمدنيين. الحياد الإيجابي قد يتضمن، من بين أمور أخرى، المزيد من العمل الدبلوماسي والإعلامي النشط على مستوى العالم، تحريك قضايا ضد الجرائم الإسرائيلية من خلال المحكمة الجنائية الدولية وغيرها من الأجهزة القانونية والقضائية العالمية، دعم أسر الشهداء والأسرى والجرحى والذين تهدم بيوتهم، العمل على جلب المزيد من الدعم المالي للشعب الفلسطيني، توعية الناس بقواعد حماية أنفسهم من المستوطنين، المصالحة، إصلاح وتطوير الأجهزة الرسمية، محاولة كسب بعض المعتدلين من الإسرائيليين.

قد يكون من الأفضل عدم تنظيم الانتفاضة الحالية، كما حدث وبنجاح في تجارب الثورات الفرنسية والتونسية والمصرية، لا من قبل السلطة ولا من قبل الأحزاب السياسية العاجزة. انتفاضة في داخل كل فلسطيني حر لا يعلمها إلا هو. هو يقرر كيف ومتى وأين. تسييس الانتفاضة سيضعفها أمام الحسابات الضيقة لكل حزب ولأشخاص قلة من المنتفعين. عدم التحزب سيوحد الكل الفلسطيني نحو هدف واحد، ويوقع إسرائيل في "لخبطة" لن تمكنها من استهداف أحد. لن تعرف من تغتال. أن تدري ماذا تقصف. لن تستطع أن تقرر من تعتقل.
بهذا ستشل الانتفاضة الجديدة القدرة الإسرائيلية على الضربات الاستباقية ولن تستطيع أن تغتال أو تعتقل أو تطرد مئات الآلاف من الفلسطينيين، بالرغم من كل الأسلحة التي تمتلكها. وبهذا ستشل تحركات المستوطنين في الضفة الغربية الذين لن يتوقعوا أين ومتى وكيف سيتم استهدافهم. هذا الشلل هو الذي سيجبر المستوطنين على الرحيل أو الاختباء من الجبن والغباء الذي يعرفهجيدا أطفال الانتفاضة الأولى؛ هذا هو بالتحديد الذي سيدفع الحكومة الإسرائيلية على استجداء التفاوض من جديد، ولكن هذه المرة لن نقبل إلا بتطهير الضفة الغربية من المستوطنين وغزة من الحصار. إذا استطاع أطفال الحجارة في الانتفاضة الأولى شل حركة المستوطنين داخل المدن الفلسطينية ودفعهم خارجها، فإن الانتفاضة الثالثة ربما ستجبر المستوطنين إلى هجر الطرق الالتفافية والرجوع إلى حيث أتوا، إلى داخل المدن الإسرائيليةوالكيبوتسات، أو حتى إلى روسيا وبولندا وأمريكا. هذا ما فعله السود في جنوب إفريقيا عندما شلوا حركة البلد ونظامه الأبيض العنصريالاستعلائي، الذي أدى في النهاية، وبشكل غير مسلح، إلى إسقاط نظام الفصل العنصري، مرة واحدة وإلى الأبد.
هذه الهبة فرصة للدخول في انتفاضة ثالثة شعبية عارمة، علينا الاستفادة من اللحظة وعدم إضاعتها؛ سواء بمعارضتها أو بعسكرتها. علينا ألا نستعجل قطف الثمار قبل نضوجها.