في زماننا هذا؛ حُرم أكثر المصلين من الخشوع في صلاتهم، فما إنْ يرفعوا أيديهم مكبّرين، مؤذنين بافتتاح الصلاة، حتى تعكّر عليهم الخواطرُ صفوَ التفكر في معانيها، وتدبر الآيات المتلوة فيها.
ويعتذر أغلب هؤلاء - ولا أبرئ نفسي - بمشاغل الدنيا وهمومها، ولكنهم ينسون أن هذه المشاغل لا تخطر لهم ببال؛ حينما يتابعون مباراة هامة، أو مسلسلا مشوقا، أو برنامجا جذاباً، أو نشرة أخبار في وقت النوازل.
وإن قساة القلوب منهم؛ لا يأبهون بهذا الأمر، ولا يلتفتون إلى أهميته، فلا يجاهدون أنفسهم، ولا يدافعون وساوس الشيطان عنها، ولا يسألون عن الأسباب المعينة على الخشوع، فقد ارتضوا أن تكون صلاتهم بلا روح.. يتمتمون ويؤدون حركات وأعمالاً لا تبقي في نفوسهم أي أثر من زيادة في إيمان، أو إقلال من ذنوب.
وآخرون اعترفوا بخطئهم، وشعروا أن هناك خللاً عظيماً في إيمانهم، فقد قرأوا قول الله تعالى: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً"، ورأوا أن آيات الله تُتلى عليهم في الصلاة؛ فلا توْجَل قلوبهم، ولا يزداد إيمانهم!
وقرأوا أيضاً قول الله تعالى: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"، ورأوا أن صلاتهم ليست كذلك، فعلموا أن الخلل ليس في الصلاة التي فرضها الله، وإنما في أدائهم إياها، وعدم تعظيمهم لها، وانشغالهم عن معانيها بالخواطر الدنيوية، حتى خالطهم شعور بأنهم لم يصلوها، وقد صلوها !! لأن معانيها العظيمة لم تختلط في قلوبهم وخواطرهم، فكيف ستبقى معهم تذكرهم بعقاب الله قبل الإقدام على الفحشاء والمنكر؟!
وإني أزعم أن أمراً واحداً لو استحضره المصلي قبيل صلاته وأثناءها حتى نهايتها؛ كفيل بأن يجعله خاشعاً في صلاته كلها.. وهو أنه حينما يقوم إلى الصلاة؛ فإنه يصبح في حضرة الله تعالى، واقفاً بين يدي الملك العظيم جل جلاله.
حينها؛ يعلم أنه رب كريم، متفضل عليه بالنعم، وأعظمها أن أذن له بالوقوف في حضرته، يتلو كلامه العظيم؛ بلسانه الذي طالما استطال به على أعراض الناس، وكذب واغتاب ونمّ وبهت.. والله سبحانه يسمع تلاوته، ويباهي به ملائكته.
ويعلم أنه يقف بين يدي رب رحيم حليم، يبارزه العبد بالمعصية، ويُعرض عن أوامره، ويأتي نواهيَه، ثم يسمح له بأن يطرق بابه ويناجيه وقتما شاء، ليجد الله تعالى فرحاً بقدومه وأوبته.
يا لله ما أرحمه! يقف العبد العاصي بين يديه، فإذا قرأ "الحمد لله رب العالمين"؛ قال سبحانه: (حمدني عبدي)، وإذا قرأ "الرحمن الرحيم"؛ قال الكريم: (أثنى عليّ عبدي)، وإذا قرأ "مالك يوم الدين"؛ قال جل جلاله: (مجّدني عبدي)، وإذا قرأ "إياك نعبد وإياك نستعين"؛ قال العظيم: (هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل)، فإذا قرأ: "اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين"، قال الرب تعالى: (هذا لعبدي ولعبدي ما سأل).
فكيف بعد ذلك؛ يطيب لعبد أن يقرأ الفاتحة في الصلاة، وهو لاهٍ عن هذا الفضل العظيم، الذي يسبغه الله تعالى على المصلي أثناء تلاوته فاتحة الكتاب؟!
أتراك - يا أخي - تستحضر أنك في حضرة الملك سبحانه، ثم لا تخشع لهيبة الموقف بين يديه؟ ألا تستحي منه - تعالى - وأنت متوجه إليه بما في رصيدك من معاصٍ وخطايا، وهو مقبلٌ عليك، مرحبٌ بقدومك، ثم بعد ذلك تسرح بالدنيا ومشاغلها وهمومها؛ عن الاستغراق في عظمة هذا الموقف الجليل؟!
أتراك - يا أخي - تقف في حضرته سبحانه، ثم لا ينكسر قلبك، ولا تسكن جوارحك، ولا تلتفت بكليتك إلى عظمة كلامه، ولا تكون مستعداً إلى الاستماع لأوامره، مسارعاً إلى تنفيذها؟!
أتراك بعدما تذكرت أنه سبحانه قريب منك وأنت تصلي، يسمعك ويراك، ويعلم ما تحدث به نفسك؛ تنقر الصلاة كنقر الغراب، وتتلفت فيها يمنة ويسرة، وتضطرب جوارحك ولا تسكن، ويغفل قلبك عن التفكر في معاني الآيات والذكر والتسبيح والدعاء؟!
يا لغفلتك! كيف لا تنهمر الدموع من عينيك، وأنت تعيش هذا الموقف المهيب؟ كيف لا تختلط حينها دموعُ الخجل من الله؛ لتفضُّله الدائم عليك رغم فجورك.. ودموعُ الخوف من عقابه وقد جعلته أهون الناظرين إليك، ودموعُ الفرح برب يُسَرّ بتوبتك، ويحب العفو عنك؛ إن ندمت ورجعت إليه؟!
إنه والله لأعظم موقف يعيشه العبد في هذه الدنيا.. فيا حسرة على العباد! أكثرهم لا يُتاح لهم لقاء ملوك الدنيا وزعمائها، ويتمنون رؤيتهم بالعين المجردة ولو مرة في الحياة، وإذا ما تيسر لبعضهم مثل هذا اللقاء؛ فإنهم يتجهزون له بأجمل الثياب وأطيب العطور، ويشغل هذا اللقاءُ تفكيرَهم وخواطرَهم ليل نهار، حتى إذا ما حان موعده؛ وقفوا أمام ملوك الدنيا خاشعين ذليلين منكسرين، وسكنت في حضرتهم جوارحُهم، وحضرت عقولهم وقلوبهم، ولم تَفُتْهم كلمة ولا حرفٌ ولا إيماءة تصدر عن هؤلاء الزعماء؛ إلا وحفظوها، وعملوا بمقتضاها، ثم إنهم يرجعون إلى قومهم متباهين متفاخرين بهذا اللقاء..
ويحنا! أي داء أصابنا حينما خشعت قلوبنا وجوارحنا لملوك الأرض، وما عرف الخشوع إليها طريقاً حين وقفت في حضرة ملك الملوك، ومالك الملك؟!
أعلمت بعد ذلك يا أخي، أي وهاء في حجتك القائلة: هموم الدنيا وأعباؤها تشغلنا عن الخشوع في الصلاة؟! هل أدركت أن الخلل فيك أنت، وأنك مطالب بأن تجاهد نفسك على تفريغ عقلك وقلبك في الصلاة إلا من الله؟!
جرّب هذه الوصفة، وستدرك حينئذ أنك كنت تحرم نفسك من الصلة بالله تعالى، ومن القرب منه، والأنس به.