24.45°القدس
24.19°رام الله
23.3°الخليل
30°غزة
24.45° القدس
رام الله24.19°
الخليل23.3°
غزة30°
الإثنين 29 يوليو 2024
4.74جنيه إسترليني
5.2دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.01يورو
3.69دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.74
دينار أردني5.2
جنيه مصري0.08
يورو4.01
دولار أمريكي3.69

أنا وديك الحبش

358935876
358935876
نافذ علوان

نحتفل هنا في الولايات المتحدة بعيد الشكر. يتناول فيه الشعب الأمريكي ما يزيد عن 250 مليون طن من لحم طير الحبش ومن فطائر (القرع الحلو) ومن الخبز و.. و .. و.

هذه السنة تضامناً مع كل أحداث مناطقنا العربية الدامية، من موت أطفال سوريا غرقاً على شواطئ العالم إلى أولئك الذين يموتون تحت نيران القصف الفرنسي وصولاً إلى من يموتون في المعتقلات المصرية وصعقاً وغرقاً في مياه الأمطار وبالجملة من يموتون في الضفة الغربية عن طريق إعدامات ميدانية لكل فلسطيني أو فلسطينية يضع يده في جيبه أو حقيبته وكذلك تضامناً مع من يحصدهم الموت في قطاع غزة سواء عن طريق القصف الإسرائيلي أو عن طريق إغراق الأنفاق التي يدخل عبرها الغذاء والدواء والحياة في ضل الحصار لقطاع غزة. تضامناً مع كل هذا الموت قررت أن لا يكون هناك احتفال بديك الحبش في بيتنا.  قررت أيضاً أن لا يموت طير الحبش والذي نقوم بذبحه في كل عام حيث نفضله طازجاً ولا نحبه مجمداً.

وبما أن أطفالي لا ذنب لهم في قراراتي التعسفية هذه قمت بإرسالهم إلى بيت جدتهم لأمهم لمشاركة بقية الشعب الأمريكي في هذه المناسبة والوليمة التي تقام في كل بيت هنا في الولايات المتحدة الأمريكية. بقيت أنا وديك الحبش الأبيض الكبير وحدنا في المنزل. أخذت أمشي أنا وديك الحبش في حديقة المنزل أنظر إليه أحياناً وأتجنب نظراته إلي أحياناً أخرى.

كانت الشمس قد اختفى ضوئها تماماً والمنزل في شبه عتمة كاملة وذلك أيضاً تضامناً مع العديد من مدننا العربية والتي ينقطع عنها الكهرباء، عتمة تعم أرجاء البيت إلا من ضوء شمعة بسيط كان يتسلل إلى حيث نجلس أنا وديك الحبش في حديقة المنزل وكأنه ضوء شمعة من شموع الحزن التي تعم العاصمة باريس حزناً على مائة وبضعة وعشرين فرنسياً قضوا لا نعرف كيف ولا على يد من، شموع أعادت لباريس اسم عاصمة النور تلك الشموع على عكس شمعتي أنا وديك الحبش والتي بالكاد تضيء شيئاً على الإطلاق حزناً على أرواح الآلاف ممن ماتوا ويموتون في عالمنا العربي في كل يوم.

وجدت نفسي أقول لديك الحبش .. هل تعلم بأنك مدين لي بحياتك اليوم؟ كان من الممكن أن تكون الآن محشواً ومحمراً تتوسط مائدة عليها كل ما تتمني العين وتشتهي النفس. هل تعلم أنك مدين بحياتك إلى مدينة القدس والقاهرة وبيروت وحلب ومدينة غزة؟  هل تعلم أين مدينة غزة؟ هل تعلم كم جائع يود أن يطال رقبتك في كل المدن العربية التي أحدثك عنها؟ هل تعلم أن هناك ما يزيد عن 300 مليون عربي يعيشون في عتمة كهذه وهم يحسبون أنهم يعيشون في وضح الحياة؟  وهل تعلم أن هناك أكثر من 6 بلايين إنسان على وجه الأرض لم تحرك ساكناً على كل الموت الذي يدور ويقع على الملايين في دولنا العربية؟ لم يرحموهم كما رحمتك ولم يتضامنوا معهم كما نتضامن معهم أنا وأنت اليوم.

قلت لديك الحبش .. والمشكلة ليست هنا. المشكلة هي أن الإحساس أصبح معدوماً عند حكام البشر. في الضفة في الرياض في عمان في القاهرة في دمشق في الدوحة في باريس في موسكو .. هنا في واشنطن ، المشكلة هي انعدام الإحساس عند البشر تجاه ما يعانيه البشر في عالمنا العربي. وها أنا أشعر بك وأصدر عفواً عام أن لا تموت ، أما هم فلا يشعرون بوجوب إصدار مثل هذا العفو عن 300 مليون عربي أن لا يموتوا جوعاً ومرضاً وقصفاً وحصاراً. يبدوا أنك تملك حظاً لا تملكه الشعوب المطحونة في عالمنا العربي. نعم هذه الدنيا حظوظ حظك أيها الديك أقوي من حظ 300 مليون عربي!

قلت له هل تعلم أن لدينا ملوك وروؤساء وأمراء في دولنا العربية يشبهونك تماماً في الامتلاء وفي المظهر وحتى في المشية؟ لدرجة أنك واحد من أمثالنا الشعبية حين يقولون ( يمشي كديك الحبش ) أو عندما يقال ( يزهو بنفسه كديك الحبش ) نعم يا شريك عتمتنا الاختيارية هذه .. لدينا ملوك ورؤساء وحكام وأمراء يمشون مشيتك ويزهون زهوك بين شعوبهم المطحونة الهزيلة الجائعة ، أنت على الأقل يمكن الاستفادة من لحمك أما هؤلاء الملوك والزعماء العرب فلا فائدة من عقولهم ولا لحومهم.

أخذت أنظر إلى ريشه شديد البياض وبنيته التي تدل على حرص المزرعة التي أتى منها من اعتناء بصحته ورعايته حتى بلغ إلى هذه الدرجة من الصحة والعنفوان ثم قلت له .. هناك الملايين من أبناء بلادي العربية عاشوا حياتهم بأكملها ولم يجدوا ربع العناية الصحية التي تم توفيرها لك منذ خرجت من البيضة وحتى يومنا هذا، وهناك منهم من لا بريق لجلده ولم يعرف معنى أن يتوفر له مجرد الماء النظيف ليشربه ناهيك عن تنظيف وتلميع ريشه .. عفواً أقصد جلده. وبحسبة صغيرة تجد أن تكاليف العناية بـ10 ديوك حبشية مثلك كافية لإعالة عائلة من خمسة أفراد لعام كامل في دولنا العربية .. عجيبة هذه المفارقات للإنسانية عندما تقارن بين عيشة ديك الحبش هنا في الولايات المتحدة وبين عيشة الإنسان في عالمنا العربي.

رفعت رأسي ونظرت إلى ديك الحبش فوجدته وكأنه كان جاثياً على الأرض قدميه من تحته وكأنه جالس على بيضة فحسبته نائماً فاقتربت منه فلم ( يجفل ) لاقترابي منه فلكزته بقدمي فإذا به يسقط على جنبه. أسرعت وأضأت الأضواء في المنزل المبرمج علي أحدث طراز فإذا بالبيت تشع به أضواء قد تكفي لإضاءة ربع الضفة الغربية وجميع قطاع غزة وجزء من مدينة عمان الأردنية وبضغطة زر أخرى كنت أتحدث مع سنترال الطوارئ ( الإسعاف ) وفي خلال ثواني كانت معدات الإسعاف تهرع إلى المنزل وكأن هناك في الشارع الذي يقع فيه منزلنا قد وقع حادث جلل. 

تكوم المسعفون حول ديك الحبش في محاولات مستميتة لإنقاذه. هناك من وضع على منقاره كمامة أكسجين خاصة بالطيور وذاك يدلك عضلة قلب ديك الحبش وآخر على الهاتف يستشير خبيراً في صحة ديوك الحبش من ولاية مجاورة وأخيراً تقدم إلي كبير المسعفين ينقل إلي خبر وفاة ديك الحبش الثمين وأسباب وفاته واضعاً يديه حول كتفي ويحدثني بحرارة صوته يملأه الحزن والأسى وهو يخبرني أن هذا النوع من ديك الحبش تقوم الشركة التي تربيه ( بعلفه ) بطريقة تضمن اكتمال امتلائه وذلك لتناوله وهو في أقصى حالات اكتماله .. قال والعبارات تكاد تخونه من الحزن قائلاً يؤسفني أن أخبركم أن الديك قد مات من شدة ( الشبع ).