في ثانويتنا كان المعلمُ جميل جوار السبورةِ يبدو قصيرا، إذا ما كتب؛ يقفزُ كأرنب، وإذا ماحكى؛ صوتُه بالكاد وصل .. ورغمَ إلمامِه العميق بمادةِ التاريخ؛ إلا أنَّ حجمه أضاع احترامَه لدينا، وصوته أثار السخرية ..
أيام السنين البعيدة ... عندما بدا كلّ شيءٍ مُباحا لعقولنا الصغيرة، والجندُ يقتحمون المدرسة، يأخذون من يأخذون، ويتركون من يتركون، وناظرنا الوقور يشدّهم، ويشدونه، وهم يجرّون المأخوذين خرافا من حظيرةٍ رخيصة ..
ذات واقعةٍ سال دمٌ كثير، واعتقل الكثيرون .. وكان الضابطُ قد جنَّ، فاستقدم قوات إضافيّة، ضرب طوقا من خلف الجدران، وقفز مع العشرات إلى الفصول ... كان الأستاذ جميل في فصلنا .. ورأيناهم من خلف النوافذ الواطئة، يرفعون الهراوات الغليظة ..
لماذا التاريخُ ينسى تفاصيله الصغيرة؟
فوجئنا بالأستاذ يجري إلى الباب، يسنده بظهره الضئيل، ويبدأ بدفعهم، كان الباب ينفتح، لينصفق، والأستاذ تحته يعلو، ليهوي، هم يزيحونه، وهو يعودُ أكثر تصميما .. في لحظةٍ رأينا الضابط من خلفِ النافذة يتوعدنا .. سمعناهُ يشتم أستاذنا، وحكامنا، وديننا، ورأينا أستاذنا أيضا يتبدّل، صوتُه لم يعد خافتا ناعما .. سمعناه خشنا عريضا: تعالوا إلى هنا .. إدفعوا معي ..
ثمَّ يردّد عبارةً قصيرة:
في فيتنام تُمسح قرى عن بكرة أبيها .. في فيتنام ...
لحظتها قمنا من ذهولِنا .. هرولنا دامعين .. احتضنا البابَ، والمعلّمَ ... يومَها رأيتُ دمعا في المآقي .. ويومها استطال معلم التاريخ ... اعتلى عقولنا، وصار قِبلتها المجيدة ....
