20.18°القدس
19.81°رام الله
18.3°الخليل
25.09°غزة
20.18° القدس
رام الله19.81°
الخليل18.3°
غزة25.09°
الثلاثاء 08 أكتوبر 2024
4.95جنيه إسترليني
5.35دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.15يورو
3.79دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.95
دينار أردني5.35
جنيه مصري0.08
يورو4.15
دولار أمريكي3.79

قراءة في الواقعية السياسية الفلسطينية

خالد معالي
خالد معالي
خالد معالي

عملت انتفاضة القدس في شهرها الرابع على زيادة الدفع والنقاش بين تيارين سياسيين رئيسين في الساحة الفلسطينية بصورة لافتة في تعريفهما للواقعية السياسية، التي في الأصل تعرف بأنها: "الممارسة السياسية المستندة إلى القراءة الموضوعية العلمية للواقع، بهدف التعامل معه بحكمة، وبما هو معلوم وموجود؛ بقصد تحويله وتغيير معطياته، ما يوجد واقعًا آخر مختلفًا، بصورة أفضل، وهي عملية توفيق خلاقة ومعقدة بين متناقضات في ضوء ما هو معلوم وملموس، وتوظف المعرفة في كشف أسرار الواقع واتجاهاته". 

أمر عادي جدًّا أن تختلف الرؤى تجاه الواقعية السياسية لدى قوى الشعب الفلسطيني، وهو ما جرى في ثورات سابقة عبر التاريخ، لكن لا يعني ذلك أن تنعطف انعطافًا حادًّا، ويصبح التناقض الثانوي هو محور الارتكاز والحدث الحالي على حساب التناقض الرئيس، وهو الاحتلال هنا، حيث توجد واقعية سياسية فلسطينية في اتجاهين مختلفين، مع وجود احتلال جاثم على صدور الشعب الفلسطيني وقواه المختلفة، يعد أنفاسهم عليهم عدًّا، وهو أمر غريب وغير معقول في عالم السياسية. 

فيما يتعلق بعمليات الطعن والدهس التي من المتوقع أن تتطور إلى انتفاضة مسلحة (وهو ما يتوقعه أيضًا كتاب ومفكرو كيان الاحتلال) يرى أصحاب الواقعية السياسية من قوى فلسطينية بعينها التي تعرف السياسة بأنها فن التغيير وهزيمة المحتل أن طرد المحتل سهل جدًّا، وأسهل مما يتوقع الكثيرون، ودليلهم أن السكين مع أنها سلاح بدائي جعلت كل جندي ومستوطن يعيش في كابوس الذبح، وكذلك ما جرى من طرد المحتل من جنوب لبنان وقطاع غزة بفعل العمل المقاوم فقط، ولغة الدم التي لا يفهم المحتل غيرها. 

ويرى أصحاب الواقعية السياسية التي تعرف السياسة بأنها فن الممكن أن التضحيات المجانية لا تجوز، ويتحمل وزرها من يقدمها مجانًا للاحتلال، في ظل اختلال بموازين القوى واضح جدًّا يعمل لمصلحة الاحتلال، ومن غير المجدي التحليق في عالم النظريات والأحلام والأوهام غير القابلة للتحقيق _بنظرهم_ على الأقل في هذه المرحلة التي تحمل علامات الضعف، بانشغال العرب بحروبهم الداخلية وعدم التفاتهم إلى القضية الفلسطينية؛ فلا يوجد أي نوع من الحكمة في هدر الطاقات مجانًا دون نتيجة تذكر، أو عدم تحقيق الأهداف المرجوة بالتحرير وبناء الدولة. 

من يسقطون فن الممكن على الواقعية السياسية يرون أن الحقيقة لها عدة أوجه، فلا مفر من اختيار المناسب منها، والمناسب هنا هو حقيقة وجود قوة مهيمنة ومسيطرة، لابد من التعاطي معها مؤقتًا إلى حين تغير الظروف. 

بحسب رأي منظري مدرسة فن الممكن: إن المرونة، والموضوعية، ودراسة الإمكانات المتاحة والتعاطي معها، وعدم الانجرار وراء الخطابات الحماسية، وعدم بعثرة الشعارات البراقة، التي تضر ولا تنفع؛ كل ذلك يمكن له أن يعيد الحقوق لأصحابها، وتضمن عدم تقديم تضحيات مجانية. 

الواقعيون في هذه المدرسة رأوا _ومازالوا_ أن أفضل وسيلة للتعامل مع تصارع القوى هي التعامل معها دون التصادم، في حال كانت موازين القوى لا تلعب لمصلحتهم، وهذا يقود إلى الانصياع، أو التفاوض، أو التحايل على القوة المسيطرة، بدل مجانية التضحيات والتصدي لها بطريقة عبثية وعلنية متهورة. 

ويرون أيضًا أن التحول نحو انتفاضة مسلحة وعنيفة وقرار مواجهة الاحتلال واقعية سياسية مغلوط فيها، وما هو إلا ضرب من الجنون والانتحار السياسي، يتحمل نتائجه تاريخيًّا من اتخذ القرار دون التبصر والتمعن الكافيين بطريقة عميقة ومدروسة في معرفة العواقب المترتبة عليه مقدمًا. 

ويقولون: "إن أصحاب النظرية الثورية قد استبد بهم وأعياهم طول وقت الانتظار، وتعايشوا مع اللحظة العابرة العاطفية، وإنهم جميعًا يحلقون كثيرًا في الأوهام، وإن خطاباتهم ووسائلهم وأساليبهم ما هي إلا دغدغة للعواطف، وتصلح للعوام ولجموع الناس العاديين البسطاء سطحيي التفكير". 

تتعامل مدرسة فن الممكن بما هو موجود وحاصل، ولذا تبتعد قدر الإمكان عن سنة التدافع وحالة الجدل، وهو ما قد يقود إلى بطء حركة التغيير أو وقفها، ويردون على ذلك بأن التغيير ليس شرطًا أن يوجد الأفضل، بل قد يوصل إلى أسوأ مما كان في السابق. 

العالم الإسلامي الكبير ابن خلدون يقول في مقدمته: "القوي يتبعه الكثيرون ويلحقون به لمجرد أنه قوي"، ومن هنا ينطلق جزء كبير من الفلسطينيين بالبحث عن أسباب قوتهم، ويضربون الاحتلال في خاصرته الرخوة، وهي الأمن؛ فنجحت انتفاضة القدس التي هي قوة الثورة في ذلك؛ فلا تكاد تجد مستوطنًا يتجول في الضفة وحده كما كان قبل الانتفاضة، حتى داخل أراضي الـ(48) التي أقاموا عليها دولتهم المزعومة الفانية يخافون التنقل والوقوف في محطات النقل خشية الذبح والقتل؛ فلا أمن ولا أمان مع الاحتلال. 

ويتسلح معرفو السياسة بأنها فن التغيير والمؤيدون لهذا التعريف بأنه لم يحصل ولو حالة واحدة عبر التاريخ أن تحرر شعب من الاحتلال دون مقاومة وثورة، وإنما بالمفاوضات، وأن الضعيف لا يقلده ولا يقتدي به أحد، ولا يرغب به أيٌّ كان، ولذا إن لحوق أي شخص أو مجموعة والتصاقها بالقوي دون أن تمتلك مصادر قوة وضغط ليس بإنجاز، ولن يغير من واقعها السياسي الضعيف شيئًا؛ كون القوي الظالم يريد أن يحتفظ بقوته لنفسه، ولا يوزعها مجانًا، ولا يعطي شيئًا بالمجان. 

جدليًّا من حق كل مدرسة أن تدافع عن نفسها وتطرح ما لديها من بضاعة، وتعززها بالدلائل والشواهد، وتدعم فكرها وطريقة فهمها للأمور، فلا حجر على الأفكار، ومن يبنِ أفكاره على أساس متين يدم ويستمر وينتصر، وتبقى الأعمال بخواتيمها، وهو ما لا تجيب عنه إجابة شافية مدرسة الواقعية السياسية التي تعرف السياسة بأنها فن الممكن.