مع كل سنوية لانتفاضة الحجارة التي انطلقت عام 1987 يستذكر الفلسطينيون في محافظة طوباس والأغوار الشمالية، أول شهيدين هناك: الصديقان نازك وباسم صوافطة، اللذان وحدهما حلم دراسة الطب، وقضيا في اليوم ذاته.
واسترد إبراهيم صوافطة وزوجته حسنية حكاية استشهاد ابنيهما نازك، أول أيام الانتفاضة الشعبية، تروي فتقول: "كان نازك معنا على سطح المنزل يوم 21 كانون أول 1987، وسمعنا عن اقتحام الجيش لطوباس، وطلبت من ابني أن لا يخرج، ولم نعرف كيف غاب عن عيوننا، دون أن يتناول الغداء الذي طلبه.. بعد وقت قصير جاءنا خبره، وقال لنا الجيران عصرًا: "أبنكم نازك ورفيقه باسم استشهدوا"، فأسرعنا إلى مستشفى جنين، وعرفنا هناك أن جيش الاحتلال حاول اختطاف جثمانه، إلا أن الشبان حملوه ونقلوه إلى طوباس.
أصيب نازك، الرابع بين أفراد عائلته، برصاصة شقت طريقها إلى قلبه، وكان في السابعة عشرة من العمر، فيما أحست الأم وهي تصلي العصر، أن شيئاً ما أصاب ابنها، وعبثاً حاولت جاراتها تبديد استشهاده، والقول إن المصاب شاب آخر.
وصف للشهيد
يستذكر الوالدان: "كان نازك جهم، وشعره طويل، وصحته قوية، وكان يحمل كيس الطحين وشوال السكر على كتفه ويمشي مسافة طويلة، وكان ينام ويحلم بالمصارعة، لكنه رحل قبل الأوان، ولو أنه اليوم على قيد الحياة لصار أولاده طوله. وحقق حلمه بدراسة الطب".
حلمت الأم مرة يتيمة بفلذة كبدها قبل سنوات، ورأته يقترب من بوابة المنزل، لكنه رفض الدخول إليه، فيما لا ينسى الأب أحزانه الحارة، فكل شيء يُذكره بابنه. غير أن نازك تسلسل إلى أحلام جدته، وعاتبها على عدم زيارتها لقبره، ووعدته أن تفعل إذا ما شفاها الله من أوجاعها.
تتابع الأم: احتفظت بملابسه التي استشهد فيها، وسميت أبني بعد سنتين على أسمه، لكنه لم يشبهه، وحرصت عدة سنوات على أن أوزع صحناً من طبخة المقلوبة التي أحبها، ولم أحضر الأعراس أكثر من عشر سنوات حداداً على روحه.
حليب ودم
فيما أعادت فاطمة محمود صوافطة قصة غياب ابنها باسم، اللقاء الأخير الذي جمعها بولدها، وروت بحسرة: كانت رجل باسم ملفوفة بالجبص، وينتظر جبر كسره، وطلب مني قبل العصر بوقت قصير كأس حليب، فسخنته له ووضعته على الطاولة، وقبل أن يشربها سمع باقتحام جيش الاحتلال للبلدة القديمة فأراد الخروج لمكان المواجهات إلا أنني منعته بمساعدة والده، وقلنا له: أنت مكسور، ولا تستطيع المشي، فهرب من باب البيت الخلفي، وعندما رأيته من بعيد، لحقت به، لكنه رفض العودة، وكان يتحامل على أوجاعه، ويسرع حتى لا يلحق به والده.
تضيف: لم أخبر والده بهروبه، وبعد نصف ساعة، جاء أحد ابن الجيران، واسمه محمد، وكانت كل ملابسه تغرق بالدم، ليخبرنا بأن باسم أصيب هو وصديقه نازك، فاستغرب والده، وقال للشاب: يا عمي باسم في غرفته!
أسرعت الأم إلى مستشفى الاتحاد بنابلس، وبدأت تفتش عن ولدها الجريح، لكن الممرض، وصديق العائلة، تدرج في إخبارها بأن باسم صعد إلى السماء، بعد إصابة مميته في الرأس.
تقول: نقل الشبان ابني إلى بيتنا، وأخفيناه خشية سرقة جنود الاحتلال لجثمانه، وجلست بجانبه طوال الليل، كانت كل ملابسه مبللة بدمه، وبعد أن أحضروا جثمان صديقه نازك، دفناه في جنازة شاركت فيها كل البلاد.
تسكن قلب أم باسم، حكايات عديدة، وتتذكر كيف أن صغيرها فارع الطول، وأسمر البشرة، ومربوع الوجه، كان يُسرع إلى أخوته الأقل عمراً، ويطلب أن يكشف عنهم، باعتباره الطبيب الذي يداوي الناس، ويعالجهم بالحقن. ويقول لهم: لا تخافوا، الإبر ما بتوجّع. وبعدها سكنت في عقله أحلام دراسة الطب، غير أن الرصاص قتل خطة باسم، الذي جاء إلى الدنيا في الأول من نيسان عام 1970.
تواصل الأم قص وجعها: كان باسم شجعاً، ولا يخاف من أي شيء، وقوي الجسم، ولا أنسى طلبه الأخير لي بأن أطبخ له المنسف في أيام الجمع. وفي كل مناسبة أسرع إلى خزانته، أشم رائحة ملابسه، وأحتفظ بصورته في محفظتي، ولا يغادر قلبي، ولا أنسى كيف أنه كان يحمل شقيقه الصغير( حمادة) على رقبته، ومن يوم غيابه حرّمت الحليب، الذي لم يشربه، على نفسي.
تقول: رزق الله ابني مالك بولد، فأسميناه باسم، واليوم عمره 21 سنة، وصار يشبه أبني الشهيد، لكنه أبيض منه. ولو بقي أبني بيننا لكان اليوم أولاده طوله.
تعرض باسم للاعتقال ستة أشهر قبل استشهاده، حين لاحقه جيش الاحتلال داخل المدرسة، بدعوى حيازته لسكين. وبعد وقت قصير اشتعلت انتفاضة الحجارة، وتبخرت أحلام باسم بمواصلة الدراسة والطب، شأنه كصديقة نازك الشهيد أيضًا.
تتابع الأم: جاءت جارتنا أم نضال وقالت لي إن باسم زارها في المنام، وطلب منها أن أتوقف عن البكاء عليه، وأن لا أذهب لزيارة قبره؛ لأنه يريدني أن أظل مبتسمة، فلبيت له أحلامه، ولم أزر قبره، لكن الدموع ليست بيدي لأوقفها.



