تجاوز الاسير الصحفي محمد القيق حدود الموت وحدود الحياة بعد 82 يوما من الاضراب المفتوح عن الطعام احتجاجا على اعتقاله الاداري التعسفي، ولأول مرة يتصالح الموت والحياة امام جسد هذا الاسير وتنكسر التوقعات.
يجتمع الموت والحياة في هذه المواجهة التي امتدت اكثر من مدى القدرة على الانتظار، فالاسرائيليون ينتظرون صورة نصر على جثة اسير تحدى عنجهيتهم وقيودهم وغطرستهم، ولا زالت الكاميرا المنصوبة في غرفته تبث صورا لحركاته واحساسيه العنيدات.
المؤسسات الحقوقية والدولية وقفت ايضا مبهورة امام عجزها والحدّ من سلطاتها في انقاذ حياة الاسير القيق، متمنية منه ان ينقذها من هذا العجز وينتصر لمشيئة القيم وثقافة ومباديء حقوق الانسان، متكلة عليه، ملقية عبء العدالة الكونية على جسد ضامر يتسلح فقط بالايمان وقطرة الماء.
الحياة تتناقص شيئا فشيئا للاسير محمد القيق، والزمن يتوارى امام ناظريه ويتحول الى ظلال، ولكن الموت ايضا يتناقص ويتفكك ويتردد بين دقات صدره وأوجاعه وحرارته العالية، شهقات متعاكسات متضادات بين الدنيا والآخرة ، ومضات تحمل روحه بين الارض والسماء، ولا غرابة ان يسأل القدر عن روح تصعد وتتجدد وتعود دفقات ودفقات.
الاسير محمد القيق الاكثر موتا والاكثر حياة الآن، ومن يقرأ انفاسه وهي تنطبع على الوسادة ومريول المشفى، يرى ان زمن الموت من حوله يفر هاربا من النوافذ، وان جسده ينشق الى نصفين: نصف ينزل الى الحياة بعكازة الامل، ونصف ينزل الى الموت يمتلك المستقبل في منازلة العدم.
الاسير محمد القيق الاكثر موتا والاكثر حياة، رعد اسمعه في الصدر، رغبات في بركان شغف وافتتان، نظرات تدلك عضلات الغيب، رائحة حياة تتأبط ذراع الشمس، الحياة والموت دولابان يتدحرجان في فلك الارادة ، أقوى من السجن وابلغ من رجرجات الموت.
الاسير محمد القيق الاكثر موتا والاكثر حياة، وهو الوحيد الذي استطاع ان يولد في حياة جديدة بعد ان مات قبل الموت، وكلما جفت اعضائه وابتعدت عنه ازداد قربا اليها، فهو الثابت المتحول، يسقي شجرة الحرية بماء عينيه.
الاسير محمد القيق الاكثر موتا والاكثر حياة، لانه يعرف النهاية كما تقول الدكتورة فردوس العيسى، بأن المضرب عن الطعام يجد نفسه في حالة تصالح مع النهاية التي قد تكون الاستشهاد او النصر، ويختار الاستمرار في الاضراب، فلا يمكن ان يطلق على فعله الا فعل ارادة الحياة ، والتعطش لحياة اكثر انسانية.
الاسير محمد القيق الاكثر موتا والاكثر حياة، وقد تأخر قرار الاعدام الاسرائيلي بحقه، لأنه كلما تحركت المقصلة الاسرائيلية يوما وراء يوم، ساعة وراء ساعة، تحرك البحر في جسده طافيا في ماء الوقت.
الاسير محمد القيق الاكثر موتا والاكثر حياة، السماء في حنجرته ولهذا لم يختنق، آلاف الاسرى امام عينيه لهذا ظل يبصر رغم احمرار عينيه، شعبه المنتفض من حاجز الى حاجز شهيدا وراء شهيد، لهذا ظل مستيقظا بين رصاصتين وحلمين.
الاسير محمد القيق، الاكثر موتا والاكثر حياة، يتبخر في جسده كأنه على موعد مع الغيم والاحلام العليا، الحياة او الموت ولدا معه كتوأمين، يرتبك الموت، يخفف سرعته، يبكي فوق الركبتين.
الاسير محمد القيق، الاكثر موتا والاكثر حياة، غالب القدر الاسرائيلي، المتمرد على الفخ الانساني والجغرافي، الغاضب من الالتباس في هذا السلام الغامض، قرر ان يمضي حياته كلها في ولادة دائمة.
الاسير محمد القيق، الاكثر موتا والاكثر حياة، نراه بين الظلام والنور، قيود في اليدين وفي القدمين ، سماء مفتوحة على كل الاحتمالات، يرانا جميعا في تابوت متحرك طويل، قرر ان يهبط من هذا التابوت، ولكنه ظل مندهشا لأنه لم ينزل المسافرون ، تحولوا الى مقاعد.
الاسير محمد القيق، الاكثر موتا والاكثر حياة
الجسد هذه اللحظة ارض وسماء
الجسد هذه اللحظة يتمدد على سلم الفضاءات
الجسد هذه اللحظة ابد يترجل