20°القدس
19.8°رام الله
18.86°الخليل
25.3°غزة
20° القدس
رام الله19.8°
الخليل18.86°
غزة25.3°
الإثنين 07 أكتوبر 2024
5جنيه إسترليني
5.38دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.19يورو
3.81دولار أمريكي
جنيه إسترليني5
دينار أردني5.38
جنيه مصري0.08
يورو4.19
دولار أمريكي3.81

التَّوحش مذهبٌ يَمْخُر في الدِّماءِ ويُجدِّف نَحْو المَجْهول..!

عبد الله العقاد
عبد الله العقاد
عبد الله العقاد

(1)

إلى وقت قريب كانت دولة الكيان العبري هي صاحبة الامتياز في ممارسة التوحش وبأبشع صوره وأشد مظاهره وحشية بحق الشعب الفلسطيني تحديداً وغيره من شعوب المنطقة العربية ممن طالتهم آلات القتل الصهيونية وأذرعها المختلفة.. الممولة من الجهات الراعية لبقائها.

فهذا ليس افتئات على دولة الإرهاب، وإرهاب الدولة (إسرائيل)، وهي من حرصت أن تظهر بذلك الوجه القبيح؛ لإشاعة الفزع بارتكابها المجازر المتعددة، وممارسة القتل بأشكالٍ غاية في القسوة والهمجية.

فلم تكن أبرز مجازر عصابات الكيان الإجرامي (مجزرة دير ياسين)، إلا شاهداً على هذا التوجه الدموي، يوم قتلت عصاباتها ذبحاً وبقراً للبطون الحوامل من أهل تلك القرية المقدسية..؛ وذلك إبان معارك 48م؛ وقد عقَّب يومها زعيم الكيان العبري (ديفيد بن غوريون) بالقول: "لولا دير ياسين ما قامت (إسرائيل).."!

(2)

لكن مما يُؤسف له أن يُسوَّق الإرهاب والتوحش اليوم باسم دين ارتضاه الله رحمة للعالمين (الإسلام)، ويُبرر ممارسة التوحش بأنه دفاع عن حرمة المسلمين..!

مع أن علة الجهاد في فقهنا المعتبر هي "الكفر"، وواجبه وجوب الوسائل لا المقاصد؛ إذ المقصود بالقتال إنما هو الهداية وما سواها من الشهادة، أما قَتْلُ الكفار فليس بمقصود، حتى لو أمكنَ الهدايةُ بإقامة الدليل بغير جهاد كان أولى من الجهاد، هذا ما ذهب إليه الإمام الشافعي.

ولكنَّ السؤال الهام.. ماذا عن التوحش الذي تمارسه تنظيمات باسم الجهاد وأخرى باسم التوحيد الخالص، هل ذلك خطأٌ في الممارسة يقترفه جاهلون أم ذلك مذهب خاطئ يعتقده غافلون؟.

الحقيقة أن ما يذهب إليه المتوحشون في هذا الشأن يعدُّ نهجاً في منهجٍ يقوم على منظومة متكاملة تتكئ ابتداء على التكفير بإطلاق من لم يحكم بما أنزل الله؛ بدعوى تنزيه توحيد الحاكمية.

وهذا ما يتفرع منه تكفير الحُكَّام الذين يحكمون بالقوانين، ومن ثم تكفير الراضين بذلك الحكم (الوضعي)، ومن ثمَّ تكفير من لم يكفِّر هؤلاء جميعًا.. متوالية تكفيرية.

وبذلك تصبح البلدان التي تُحكم بالقوانين كلها دار كفر، وهذا يبرر أن يعود الإسلام غريبًا وتعود "حروب الردة" سيرتها الأولى، وعندئذ يصبح الجهاد واجباً بل يتحول إلى ركن من أركان الإسلام..!

ومن ثمَّ يأتي بعد ذلك الممارسة العملية الواجبة على الطليعة الجهادية المؤمنة في زعمهم، وهو الخروج على الحكام الكفار وقتالهم بغضِّ النظر عن القُدرة.

بهذا المنطق الذي يستند عليه التكفيريون المتوحشون في منهجهم ونهجهم فيبرروا لأنفسه استحلال الدماء المعصومة، ونهب الأموال المصانة، وانتهاك الحرمات المحفوظة، وإهدار المصالح المرعية؛ وذلك لانغماسهم بالتكفير بالجملة بل وتكفير من لمن يكفر ما أطلقوا عليه "تكفير العاذر"..!

وبعد ذلك ينظرون إلى كل أحكام هؤلاء (الحكام الكفار) على أنها ساقطة وغير معتبَرة شرعًا، فلا تعود تنطبق عليهم أحكام "الإمامة" في الفقه الإسلامي، فتسقط كذلك كل أحكام الذمة ودار الإسلام والمعاهدات والقوانين وكل المنظومة السياسية المعاصرة.. كل ذلك متسلسل الخطوات بين يدي إقامة الحكم الإسلام وتطبيق الشريعة وتنصيب الخليفة الشرعي.

(3)

غير أنك تجد فقهاء هذه المنظومة الحدثاء يحرصون على الكتابة في فقه الجهاد بصورة مختلفة وبطريقة شديدة الانتقائية، ومن أبرز منظريهم وعمدتهم في ذلك عبد الرحمن العلي (أبو عبد الله المهاجر) الذي جعل تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر "من المعلوم من الدين بالضرورة". في حين يرى عامة الفقهاء المعتبرون أن هذا التقسيم هو مسألة أمْلَتْها ظروف تاريخية وهي بالتأكيد قد تَغَيرت تغيراً جذرياً.

ونجد أن أولئك الحدثاء يستعينون بفتاوى بعض أئمة الدعوة النجدية غير أن الشيخ عبد العزيز بن باز كان أول من أفتى من أئمة الدعوة النجدية: "بأن من يَسنُّ القوانين لا يَكفر بإطلاق، فقد يكون سنُّ القانون لضعف أو شهوة أو اجتهاد".

(4)

هكذا يبدو هذا الفكر الذي يأخذ من التوحش مذهباً يكون قد وقع أو أوقع في خلط واضح ولبس مقصود تداخل فيه النص بالواقع أو العكس، وبدأ بالتّوسع بالعمليات الانتحارية والذبح، وتساهل في إطلاق وصف الرّدة..

فأصبح ذلك نهجاً متبعاً؛ ليحذر الظواهري في الرسالة المنسوبة إليه في 2005 الزرقاوي من "مشاهد الذبح"؛ لخطورتها في معركة الإعلام التي هي "في سباق على قلوب وعقول أمتنا"، في إشارة إلى أن تجنح تنظيم الدولة منهجياً عن القاعدة لم يكن حديث عهدٍ.

ولعلَّ أول من يرجع إليه تشريع "الغلظة والشدة"، هما شخصيتان رئيسيتان: أحدهما: أبو عبد الله المهاجر- سبق الإشارة إليه- المذكور مصري الجنسية، كان قد تأثر بفكره كثيراً الأب الروحي لتنظيم الدولة أحمد الخلايلة (أبو مصعب الزرقاوي) الذي جعله يتولى التدريس في معسكره في هيرات بأفغانستان، حيث درَس الزرقاوي عن المهاجر كتابَه "مسائل من فقه الجهاد"، وهو كتاب في "فقه الدماء"، وفيه يقرر: أنَّ البلد الذي يُحكم فيه بالقانون بلدُ كفر وتجب الهجرة منها، وأن الإجماع منعقدٌ على إباحة دم الكافر إباحةً مطلقة؛ ما لم يكن له أمانٌ شرعيٌّ، وأن "مناصرة المشركين ومظاهرتهم على المسلمين كفرٌ أكبر" مطلقًا، وأن الإسلام لا يفرِّق بين مدني وعسكري، وأن "ما في القتل بقطع الرأس من الغلظة والشدة أمرٌ مقصود، بل محبوب لله ورسوله".

والآخر، هو أبو بكر ناجي صاحب كتاب "إدارة التوحش أخطر مرحلة ستمر بها الأمة"، والذي يُنظِّر فيه: بأنَّ الجهاد من أهم أبواب هداية الخلق، وأنه "شدة وغلظة وإرهاب وتشريد وإثخان"، وأن "إراقة دماء أهل الصليب وأعوانهم من المرتدين وجندهم من أوجب الواجبات".

ويضيف بالقول: "نحن الآن في أوضاع شبيهة بأوضاع حوادث الردة أو بداية الجهاد، فنحتاج إلى الإثخان، ونحتاج لأعمال مثل ما تم تجاه بني قريظة" (قتْل الرجال وسَبْي الذراري والنساء وأخذ الأموال)، فلابد من "اتباع سياسة الشدة بحيث إذا لم يتم تنفيذ المطالب يتم تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذف الرعب".

وفي كتابه هذا وضع استراتيجية أطلق عليها "إدارة التوحش" في المرحلة التي تنهار فيها الدول ولا يتم التمكن من السيطرة عليها من قِبَل قوى أخرى، وهنا تتقدم "السلفية الجهادية" بمشروعها لإدارة حاجيات الناس وحفظ الأمن والقضاء بين الناس وتأمين الحدود وغير ذلك.

وتأتي هذه الاستراتيجية المقترحة في سياق أوسع؛ إذ يشخِّص "ناجي" المشكلة بدءًا من سقوط الخلافة وإقرار اتفاقية سايكس بيكو ونشوء النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، ومع استتباب أنظمة فرَضت قيمًا مغايرة لقيم المجتمعات خالفت العقيدة التي تحكمها، وضيَّعت المقدَّرات ونشرت المظالم، وأحكم النظام الجاهلي السيطرة على العالم بأنظمة الجنسية والورق النقدي والحدود المسيَّجة.

ولذلك فالدولة الإسلامية- بحسبه- ستقوم على أنقاض الأمم المتحدة لتُخرج الأمة من حالة الهوان وتقود البشرية للهداية. فـ"السلفية الجهادية" هي المشروع الوحيد المؤهل لذلك؛ لأنه الوحيد الذي وضع مشروعًا شاملاً للسنن الكونية والسنن الشرعية وهو منهج رباني.

(5)

بهذا الفكر المعوج والذي يظن أهله أنهم به يحسنون صنعاً لهذا الدين الحنيف (الإسلام)، ولأمة جعلها الله شاهدة على العالمين بالخيرية والأستاذية والرحمة، يمخر أولئك بمراكبهم في بحور من الدماء يجدفون في متاهات المجهول.

وعليه، فإنَّ تلك الأفكار المأزومة المميتة والعقائد الفاسدة قد استنبتتها البيئات التي أعياها التخلف، وكبتت حياتها السياسية الديكتاتورية، ومزقت مجتمعاتها الفرقة والخلاف.. فإذا بها اليوم تتصدر تلك التشوهات المشهد في كثير من الأقطار بعدما صُنف الإسلام في العقود الأخيرة على أنه الأكثر انتشاراً في العالم ولا سيما في البلاد التي تعدُّ في قوائم التحضر.