19.44°القدس
19.28°رام الله
18.3°الخليل
24.47°غزة
19.44° القدس
رام الله19.28°
الخليل18.3°
غزة24.47°
الإثنين 07 أكتوبر 2024
5جنيه إسترليني
5.38دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.19يورو
3.81دولار أمريكي
جنيه إسترليني5
دينار أردني5.38
جنيه مصري0.08
يورو4.19
دولار أمريكي3.81

أعجِزنا أن نكون مثل الغراب؟

أيمن دلول
أيمن دلول
أيمن دلول

في القصص القرآني نقرأ باستمرار أن غرابا أرسله الله يفعل فعلا لا يجب أن يقوم به إلا الإنسان تجاه أخيه الإنسان، هو فعلٌ قام به أحد “أقبح” المخلوقات في نظرنا نحن البشر، وقد كانت فعلته بينما أخذ يواري سوءة أخيه تحت التراب على مرأى من الإنسان “صاحب العقل والبصيرة”، وفي تلك الأوقات اعترف الإنسان بعجزه أمام “إنسانية” الغراب، وهو عجزٌ واعترافٌ بالذنب لم يُسعفنا مرور عقود من الزمن على تلك الحادثة لتكرار فصوله مرة أخرى بعدما تلوثت عقول الكثير من بني الإنسان بملوثات أخلاقية كثيرة، وعن تلك الحادثة يروي رب العزة ما جرى بأرجل الغراب على رؤية من الإنسان “فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين”.

في هذه المساحةِ الضيقة سأتحدثُ عن الغراب الذي امتلك ذكاءً ونخوةً غابت عن بني الإنسان بالتوازي مع ما حققه الأخير من تطور ونهضة في المجالات التقنية والتكنولوجية، بينما غاب عن فكره التطور في النواحي القيمية والأخلاقية.1

في هذه السطور سنترك التركيز على أفعال بني الإنسان “ولو لبعض الوقت”، ونقرأ في تصرفات قبيلة الغربان، وهي لحظاتٌ قد تجعلنا نعيش حالة من النشوة حينما نرى استمرار جماعاتٍ من الكائنات الحية وإن كانت من فصيلة الغربان، تُمارس العدالة والحكم الرشيد، توقف ظلم المعتدي، وتحكم بأحكام رادعة لا تفرق فيها بين نوعٍ من الغربان وآخر، ويكون من يجلس خاضعاً للمحاكمات كل مُذنب حاد عن الفطرة التي خلقه الله عليها. إن رؤيتنا للعدالة التي تعيشها فئة من الكائنات الحية وإن كانت من غير بني البشر قد تُشعرنا بسعادة أو نشوة وربما حالةً من الإسقاط التي نتمنى إعادة حدوثها داخل حياة البشر.

لدى الغربان نظامٌ مُحكم للمحافظة على حياة كل فردٍ منهم، فلا يُترك القوي يأكل الضعيف أو يستولي على طعامه وماله، ومن غير المسموح له قتل أطفاله أو مجرد سلب طعامهم!.

في هذا الزمان باتت مسألة رؤية أطفال العرب في اليمن أو سوريا يبحثون عن بقايا الطعام بين أكياس النفايات الملقاة على قوارع الطرقات بعدما سلبت الحروب خيرات بلادهم وقتلت أهلهم ودمرت بيوتهم مسألة طبيعية تمرُ أمام ناظرنا دون أن نُحرك جوارحنا الإنسانية لإنصافهم، غير أن الأمر مختلف في مجتمعات الغربان، فمن يستولي على طعام صغار الغربان يتعرض لمحاكمة في ذلك المجتمع تكون عقوبتها من جنس الفعل، ويكون القرار: قيام مجموعة من الغربان بنتف ريش من يقترف هذا الجرم ليُصبح عاجزاً عن الطيران تماماً مثل فراخ الغربان قبل اكتمال نموها، وبذلك يعيش فترة من حياة الصغار

كثيرةٌ هي مشاهد دمار البيوت والممتلكات في وطننا العربي، تتنافس شاشات التلفزة على نقلها لنا، لكن لا محاكم البشر أو جيوشهم قادرة على إنصاف أهلها، وربما تقفُ متفرجة على هذه الجرائم، غير أن الأمر يختلف في “دولة الغربان” فمن “اقترف جريمة هدم أو اغتصاب عش غراب آخر، فتكون عقوبته إعادة بناء عش جديد بدلاً من الذي تم تدميره”، وهذا في حالة اقترافه لعملية الهدم دون القتل لصاحب البيت كما يجري في صنعاء ودوما وحلب، أو الموصل على أيدي البشر.

العديدُ من الأفلام الوثائقية والمشاهد التي توثق جرائم انتهاك الأعراض والاغتصاب وسحق الرجال أو الأطفال تحت جنازير الدبابات الطاغية، تنتشر في العديد من مواقع الإنترنت، وهي جرائم تحدث أدق تفاصيلها في الوطن العربي والمجتمعات التي تدعي قيادتها للمحاكم الدولية والمؤسسات المدافعة عن حقوق البشر لا تتحرك، وجرائم الصمت هذه لا يمكن القبول بنتائجها في مجتمع الغربان.

إن فكر أي غراب بالاعتداء على أنثى غراب أخر وانتهاك عرضها تعرض لمحاكمة شديدة “وهي توازي عظم الجريمة في القانون الذي يتحاكمون به”، والعقاب يتمثل بقتل الغراب مقترف الجريمة “ضرباً بمناقير مجموعة من الغربان حتى الموت”. وفي تفاصيل هذا النوع من المحاكمات، تنعقد هيئة المحكمة عادة في حقل من الحقول الزراعية أو في أرض واسعة ويتم اختيار وقتٍ محدد تتجمع فيه هيئة المحكمة ويتم جلب الغراب المتهم تحت حراسة مشددة.

وبمجرد بدء المحاكمة يُنكس الغراب المتهم رأسه ويخفض جناحيه ويتوقف عن النعيق اعترافاً بذنبه حتى يصدر قرار القاضي فإذا كان الحُكم هو الإعدام تقوم جماعة من الغربان بالانقضاض على المذنب فوراً فتوسعه تمزيقا بمناقيرها الحادة حتى يموت.

لا تنتهي فصول المحاكمة عند هذا الحد، فبعد قتل الغراب المعتدي حداً لا يُترك حتى يتعفن جثمانه أو يتحلل ويجد الجميع رائحته النتنة كما يجري في بلادنا ومدننا هذه الأيام. إنما يحمله أحد الغربان بمنقاره ويحفر له قبراً بحجم جسمه ويضعه فيه ثم يُهيل عليه التراب احتراماً للموت، وهكذا نعود إلى بداية فعل الغراب التي ذكرناها في بداية حديثنا، وهي موروثات تضمن الحقوق والواجبات في هذا المجتمع الذي حافظ عليها منذ آلاف السنين، بينما نسيها عالم الإنسان رغم النهضة في المجالات المختلفة.

إن الحالة التي نعيشها من انتهاك الكرامة الإنسانية تؤكد بأننا عجزنا نحن البشر أن نكون بتصرفاتنا مثل الغراب، وهو عجز لم يمنعنا من استمرار النظر استهزاءً للون الغراب دون الخجل من أنفسنا حين النظر إلى فعله ومقارنته بأفعالنا.