ثلاث مشكلات تواجه القوى السياسية التى تصف نفسها بالمدنية فى مصر، الأولى أنها قائمة على مجموعة من الأكاديميين والهواة، الثانية أن حضور مؤسسيها على شاشات التليفزيون وفى الفضاء الثقافى والإعلامى أكثر من حضورهم على أرض الواقع. الثالثة أنهم يعرفون ما يخاصمونه ويرفضونه، لكنهم لا يعرفون ما الذى يقبلون به. أعنى أنهم يعرفون ما يريدون هدمه ولكن ليسوا على اتفاق على ما يريدون بناءه. المشكلة الأولى تشترك معهم فيها التيارات الإسلامية، إذ الجميع حديثو عهد بالممارسة السياسية، صحيح أن التيارات الإسلامية لديها أعداد كبيرة من الدعاة الذين يعتلون منابر المساجد كل أسبوع، فضلا عن أن لهم حضورهم المشهود فى الكثير من المناسبات، لكن الدعاة غير السياسيين، وكل طرف له لغته وأساليبه وجهوده. مع ذلك فليس هناك شك فى ان الجماعات السياسية الأخرى التى برزت بعد الثورة كانت جاذبة لأعداد كبيرة من الأكاديميين من ذوى التوجه العلمانى واليسارى، إلى جانب العناصر العلمانية الأخرى بين المثقفين والفنانين. وهؤلاء وهؤلاء انخرطوا مع جموع الثوار واندفع بعضهم باتجاه الاصطفاف الذى أفرز الاستقطاب الحاصل. وكان الهواة فى الصف الأول منه. ولأنهم جدد فى الساحة فقد كانوا الأكثر تطرفا والأقل استعدادا للحوار أو التلاقى مع الآخرين. وذلك جانب فى الصورة يهدد بتعطيل الاجماع الوطنى. المشكلة الثانية من مخلفات النظام السابق الذى قام بتجريف الساحة السياسية ولم يسمح لأى فصيل سياسى ان يعمل وسط الجماهير إلا بإذن منه. فى ذات الوقت فإنه كان يؤثر تحويل الأحزاب إلى مجرد «ديكور» يتم التجمل به، الأمر الذى أحدث فراغا هائلا بعد سقوط النظام، حيث اكتشفنا أن ذلك البلد الكبير لا توجد به أحزاب حقيقية، وحين دخلنا فى طور الترشح للانتخابات صارت شاشات التليفزيون هى الساحة الوحيدة التى يتنافس عليها السياسيون. وترتب على ذلك ان الناس شاهدوا صور اللاعبين السياسيين واستمعوا إلى كلامهم، لكنهم لم يختبروهم فى أى وقت. ولم يصادفوهم على أرض الواقع، فى الوقت الذى كانت التيارات الإسلامية لها معاقلها وفى مقدمتها المساجد، إضافة إلى الجمعيات الخيرية التى ظلت تديرها، غير ما تيسر من الأنشطة الخدمية الأخرى. وقد أثبتت التجربة أن الذين يعيشون مع الناس يظلون أقرب إلى قلوبهم عن أولئك الذين يرونهم على شاشات التليفزيون. وهو ما يفسر ضمن أسباب أخرى. حصول الإسلاميين من إخوان وسلفيين على أكثر من 70٪ من مقاعد مجلسى الشعب والشورى، فى حين كانت حصة المجموعات السياسية الأخرى متواضعة فى تمثيلها. وما يلفت النظر فى هذا السياق أن تلك الجماعات السياسية مازالت متحصنة ببقائها فى القاهرة، ومكتفية بالحضور فى الفضاء التليفزيونى. ولم تلحظ لها جهدا يذكر فى التلاحم مع الناس، علما بأن هؤلاء وغيرهم لاتزال أمامهم فرصة واسعة للنزول إلى الشارع وإعداد أنفسهم للمشاركة فى انتخابات المجالس المحلية، التى تمكنهم من إثبات جدارتهم بالتفاعل مع المجتمع، وهو الاختيار الذى إذا نجحوا فيه فإنه يمهد الطريق أمامهم لكسب ثقة الناس وإقناعهم بأنهم حقا «خير من يمثلهم». الأمر الذى يمكنهم من منافسة التيارات الإسلامية فى الساحة التى استأثروا بها طويلا. المشكلة الثالثة معقدة لأنه من الواضح حتى الآن أن تلك الأحزاب المدنية لا يجمع بينها سوى معارضة التيار الإسلامى أو كراهيته من قبل البعض، وفيما عدا ذلك فقلوبهم شتى، إذا استخدمنا المصطلح القرآنى. وقد أبرز الدكتور سامر سليمان هذه النقطة فى مقاله الذى نشرته له جريدة «الشروق» يوم الأحد الماضى 8/7، إذ تحدث عن اصطفاف تلك المجموعات فيما سموه التيار الثالث، وذكر أن مؤسسيه مختلفون حول فكرته. فمن قائل إنه وسط بين الإخوان والعسكر وكأنه كيان يفصل بينهما فقط. وقائل إنه ضد الاثنين، وقال ثالث ان التكتل ليس ضد التيار الإسلامى فى حين أن ذلك وحده ما يجمع بين الشيوعيين والعلمانيين المشاركين فى التكتل. الرابع قال انه تحالف مدنى اجتماعى مع ان أحد أبرز أركانه اعتبره حزبا رأسماليا.. وهكذا. وقد علق الكاتب على هذه الصورة بقوله انها مجموعة «كسيحة» من الناحية السياسية. الصورة ينبغى ألا تكون مصدرا للإحباط واليأس، لأنها تعكس حالة الارتباك المتوقعة فى بداية تأسيس النظام الديمقراطى. وفى مرحلة كهذه لا ينبغى أن تتوقع نشوء أحزاب جديدة كاملة الأوصاف. وإنما يتعين علينا أن نصبر بعض الوقت لكى تتيح لمختلف القوى السياسية ان تصوب مسارها بما يسمح للجماعة الوطنية بأن تنضج مشروعها وتتماسك لتسهم بشكل جاد فى تأسيس النظام الديمقراطى الجديد، ومن ثم تنشغل بمستقبل الوطن بدلا من الاستغراق فى التجاذبات الراهنة التى تعطل التقدم فى ذلك الاتجاه.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.