ليس من شرعة ولا منهاج بوسعه أن يزاحم منهاج ربّ العالمين في رحمته بالبشرية ورأفته بالبريّة، فضلا عن أن ينازعه الشرفَ في ذلك، فشتان بين شرعة ربانية طافحة بالرحمة لجموع البشرية جمعاء على اختلاف مللهم ونحلهم ومشاربهم الفكرية، وبين تشريعات أرضية طالما سام أنصارها من يناوئهم سوء العذاب وجرّوا عليهم التلف، ففاضت تلكم المناهج على البشرية بالشقوة والآهات، وجرت عليها ويلات، وزجّت بها في أتون عذابات... فشتان بين تشريع ربانيّ يأبى على أتباعه أن يكونوا قد انقادوا إليه كَرها، بل يعتبر انشراح الصدر بالإيمان، والمحبة التي يخفق بها الوجدان يعتبرها شرطاً لقبول الأعمال، ومدخلا صحيحا لصدق الامتثال، وفي هذا السياق جاء قول الكبير المتعال { لا إكراه في الدين } (البقرة 256) وقال تعالى لنبيّه عليه الصلاة والسلام : { ولو شاء ربّـك لآمن مَنْ في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } ( يونس99) وبين ملل ونحلل ومذاهب تسوق الناس قسرا لامتثالها، وهضم تناقضاتها، وغض الطرف عن مغالطاتها، والدوران في رحى مخططاتها وتخبّطاتها! من زاوية أخرى : يكفي المناوئين لشرعة ربّ العالمين، ما يغشاهم من ضنك، وما يتنزّل عليهم من أرق، جرّاء خروجهم على مضامين فطرتهم، وتمرّدهم على بواكير جبلّتهم، و شرودهم عن مكامن سعادتهم... فهذا كله هو من صنيع أنفسهم، وحصاد خياراتهم، وما كسبته أيديهم، وكفى بذلك كلّه مقتاً مبينا! وإذا كان ذلك كذلك : فمن تمام عدل الله تعالى أنه لم يَصُبّ الهلكة والعذاب، ولم يسلّط الآفات والأوصاب، على الجموع التي ضلّت عن سواء السبيل بمجرّد انغماسها في الضلالة، وانزلاقها في مزالق الشرك والغواية، ما دامت تتعاطى الحقوق فيما بينها، ولا تبغي على أحد، تأمّل في ذلك قوله تعالى : { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } (هود117) أي : ( ما صحّ ولا استقام أن يهلك الله سبحانه أهل القرى بظلم متلبّسون به وهو الشرك، والحال أنهم مصلحون فيما بينهم من تعاطي الحقوق لا يظلمون الناس شيئا، والمعنى : أنه لا يهلكهم بمجرّد الشرك وحده حتى ينضمّ إليه الفساد في الأرض ) ( فتح القدير للشوكاني 2/667) وعلى هذه الشاكلة والمنوال جرت الأحكام الربانية السَّـنيّة، والتشريعات الإلهية البهيّة ؛ فمن أنعم النظر وأعمل اللباب في مُحكَم آي الكتاب، وجاب ببصيرته ثنايا سنّة نبيّه – صلى الله عليه وسلم – وقف على لبنات العدل، ومعالم الرحمة، ودعائم الإنصاف! وكفى على ذلك حجّة ساطعة وبرهانا منيرا أنّ الرّعب ذاك السلاح الخطير المهيب لم يقذفه الله تعالى إلا في قلوب الفلول الزاحفة المعتدية، والجموع المحاربة المحتشدة للنيل من الحق وأنصاره! أما مَن رقد في مراقد الضلالة، واضطجع في مضاجع الغواية، ولم يمدّ إلى أهل الحق يداً بسوء فقد أفلت بنفسه ونأى بها من أن تلحق بها هذه السنة الربانيّة ( سنة قذف الرعب) بل ويبقي هو وماله وذراريه في مأمن من أن تذروهم رياح الرعب التي يرسلها الله فيصيب بها من يشاء ممّن شمّر عن ساعديه في مطاردة المؤمنين، ويغزو بها قلوبهم، ويصرفها عمّن يشاء ممّن لزم حدّه، ولم يجعل منازلة المؤمنين ومطاردتهم شغله الشاغل وهمّه ووِرْدَه! فتأمّل في ذلك قول الحق جلّ شأنه : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله مالم ينزّل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين } (آل عمران 151) كان ذلك في خضمّ غزوة أحد! وقوله : { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلّ بنان }(الأنفال 12) كان ذلك في غضون غزوة بدر! وقوله سبحانه :{ وقذف في قلوبهم الرّعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقا } ( الأحزاب 26) كان ذلك في غزوة الأحزاب في أتون منازلة يهود بني قريظة الذين نقضوا عهودهم مع النبيّ – صلى الله عليه وسلم -! وقوله تعالى : { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب } ( الحشر 2) كان ذلك في مقارعة يهود بني النضير! إذن : فالرعب في الآيات السابقة إنما كان في أجواء الحروب، وأما الرّعب الوارد في قوله تعالى :{ لو اطلعت عليهم لولّيت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا } ( الكهف 18) فهو في سياق كلاءة وحياطة فتية مؤمنين مطاردين! حتى إذا ما رمقتَ وتأمّلتَ نصوص السنة النبوية خلصتَ بما خلصنا به من الآيات القرآنية السالفة من أنّ الرعب إنما يقذفه الله تعالى في قلوب المحاربين الذين يجيّشون الجيوش ويُجنّدون الجنود لملاحقة أنصار الحقّ ومطاردتهم! فعَن ابنِ عباس، رَضِي الله عنهما، قال : قال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم : ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي ) وذكر منها (ونصرت بالرعب مسيرة شهر) الحديث ( متفق عليه) وفي مصنّف عبد الرزاق عن وقعة الأحزاب : ( كانت وقعة الأحزاب...فارتحلوا وأرسل الله عليهم الريح وقذف في قلوبهم الرعب فأطفأت نيرانهم وقطعت أرسان خيولهم وانطلقوا منهزمين من غير قتال، قال فذلك حين يقول : {وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا } ( الأحزاب 25) وفي المصنّف نفسه : (خرج النبي صلى الله عليه و سلم فمرّ بمجالس بينه وبين بني قريظة فقال هل مرّ بكم من أحد فقالوا : نعم مرّ علينا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ليس ذلك ولكنه جبريل أرسل إلى بني قريظة ليزلزل حصونهم ويقذف في قلوبهم الرعب) أما من جعل بينه وبين منازلة المؤمنين ومقارعتهم حجاباً فقد حجب عن نفسه رعباً عصيبا، فلن تطرق بابه أو تحلّ بساحته سنة الرّعب تلك، وفي الوقت نفسه قد أمّنه من ذلك كله الجيشُ الإسلاميّ المحاربُ الذي صاغ مواقفه على منوال تلكم السنة الربانية ( سنة الرعب) التي لا تُلحَق ولا تُلحِق إلا بالمعتدين، وحسبك شاهداً نيّراً على ذلك : ما رواه أنس بن مالك – رضي الله عنه – من وصية للرسول – صلى الله عليه وسلم - قائلاً : (( إن رسول الله قال : انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا صغيرا ولا امرأة ولا تغلوا وضمّوا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين )) ( أبو داود، السنن، 3/37،و ابن أبي شيبة، المصنف، 6/475، 371، وابن حزم، المحلى، 7/297؛ وابن عبد البر القرطبي، الاستذكار، 5/33 ). وعن بريدة – رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: ((: اغزوا باسم الله وفي سبيل الله وقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا)) (مسلم، الصحيح، 3/1357، وسنن أبي داود 3/37، وابن أبي شيبة، المصنف، 6/475، والطبراني، المعجم الصغير، 1/311؛ وابن عبد البر القرطبي، الاستذكار، 5/33 ) وعن خالد بن زيد – رضي الله عنه - أنه : (( خرج مع رسول الله مُشيّعا لأهل مؤتة حتى بلغ ثنية الوداع فوقف ووقفوا حوله فقال : اغزوا باسم الله، فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيهم رجالا في الصوامع معتزلين من الناس فلا تعرضوا لهم …ولا تقتلوا امرأة ولا صغيرا ضرعا ولا كبيرا فانيا ولا تقطعنّ شجرة ولا تعقرنّ نخلا ولا تهدموا بيتا )) (البيهقي، السنن، 9/91، والصنعاني، المصنف، 5/199 ) ووصية الصديق – رضي الله عنه وأرضاه – التي خاطب بها جيش أسامة بن زيد الّذي عقد لواءه النبي – صلى الله عليه وسلم – قائلاً : ( انطلقوا باسم الله , على بركة الله , قاتلوا من كفر بالله , لا تقتلوا طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً ولا تقطعوا شجراً , ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلاّ لمأكلة , وستمرّون بأناس فرّغوا أنفسهم بالصوامع فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له , وأناس قد عصبوا رؤوسهم بالعصائب فاخفقوهم بالسيف خفقاً ) فهو رعبٌ موزون فيه نصفة للمظلوم، وتضميد لجروح المكلوم! رعبٌ فيه شفاء لما في الصدور ؛ من آهات اليتامى، وأنّات الحرائر الأيامى، وغصّات النساء الثكالى! رعبٌ يزيح الله به العلل، ويشفي به الغلل! رعب فيه تسرية عن المستضعفين، وتسلية للمظلومين، وحسن تعزية للمكروبين! رعب يجندل الصناديد، ويُقتص به من كلّ جبار عنيد! رعب يعلو على إثره الحق من جديد، وينتكس الباطل فما يُبدئ وما يعيد! فهو إذن ليس كالرّعب الذي يقف وراءه نفوس حقودة، ذات قلوبٍ منكرةٍ جحودة، مجرّدة من الأخلاق والقيم، فالمعالم الإنسانية من جعبتها مفقودة! يصبّون فيه قذائفهم وحممهم على رعاياهم صبّا، ويصلونهم بنيرانهم صِلِيّا، فيحرقون الأخضر واليابس، فلا يسلم من شرر شرّهم المتطاير أناس ولا شجر ولا حجر ولا دوابّ... يحيلون الديار أثراً بعد عَين! وبعد : فشتان إذن بين الرعب الذي جرت به سنة العزيز الجبّار، وبين رعب جرّه ويجرّه مردة أشرار! يجرّونه على الشيوخ الرّكع، والأطفال الرضّع، والنساء الأيامى، والأرامل الثكالى.... فيفسدون به في الأرض، ويهلكون به الحرث والنسل، ولمّا يرووا عطشهم أو يشبعوا نهمهم ونزواتهم من التقتيل والقتل! ملكنا فكان العدل منا سجيّة... فلمّا ملكتم سال بالدم أبطحُ فلا عجب هذا التفاوت بيننا... فكلّ إناء بالذي فيه ينضحُ وإناء المسلمين قد مُلئ للبشرية خيرا وبِرّا، وإناء الطواغيت والظلمة والمفسدين قد ملئ للبشريّة شرّا ومكرا.... { استكباراً في الأرض ومكر السّيّىء، ولا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله، فهل ينظرون إلا سنّة الأولين، فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنّة الله تحويلا } (فاطر43) فليرقب الطغاة إذن وليرتقبوا!! فليقذفنّ الله في قلوبهم الرّعب، وليأخذنّهم أخذ عزيز مقتدر...
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.