القرارات التي اتخذها الرئيس محمد مرسى أمس الأول هي من النوع الذي يوصف عن حق ودقة بأنه "تاريخي"، بعد أن امتهنت هذه الكلمة من كثرة استخدامها من قبل الإعلام الفرعوني لأي كلمة أو قرار للرئيس "الفرعون" حتى لو كانت كلمة في افتتاح "كوبري مشاة"، فحزمة القرارات التي صدرت بإلغاء الإعلان الدستوري الذي اغتصبه المجلس العسكري قبل إعلان الرئيس الجديد بساعات، وإقالة المشير والفريق عنان ومجموعة كبيرة من أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة وقادة الأسلحة: الطيران والدفاع الجوى والبحرية، وقبلها إقالة قائد الحرس الجمهوري ورئيس المخابرات العامة وقائد شرطة الحرس الجمهوري، تلك القرارات الخطيرة هي من النوع الذي يحدد مسارات تاريخية في أي دولة، كما أنه ينهى ازدواجية السلطة في مصر التي عانينا منها طوال الشهرين الماضيين، والتي كانت تنذر بفشل الدولة المصرية وتخبطها وزيادة معاناة الناس الاقتصادية والأمنية، لأن أجهزة الدولة الأمنية والقضائية والإعلامية والاقتصادية وحتى المؤسسة الدينية كانت مقسمة الولاء بين الرئيس والمجلس العسكري وقيادته، وهو الأمر الذي أدى إلى ما يشبه الشلل في فعاليات الدولة وأجهزتها. كما كان ينذر بتطورات خطيرة أتت بوادرها من حملة منسقة لإهانة رئيس الجمهورية وتحقيره واستباحة كرامته وعرضه أمام الناس في الصحف الرسمية والخاصة الموالية للعسكري وفى الفضائيات الخاصة والتليفزيون الرسمي للدولة نفسها، مما أعطى انطباعًا بالغ السوء عن وضع مؤسسة الرئاسة ومستقبلها، وفى تصوري أنه قد يمضى وقت طويل قبل أن يعرف الرأي العام بدقة مقدمات تلك القرارات التاريخية وأسبابها المباشرة، غير أن ما ترشح من معلومات ومشاهد خلال الأسبوع الأخير يمكن أن يضع أيدينا على مفاتيح للفهم. فعندما شنت صحف وفضائيات مقربة من المجلس العسكري حملة تشهير بالرئيس وكانت تتعمد أن تزج بالجيش في ظلال هذه الحملة لم ينكر أي مصدر عسكري هذه المواقف أو ينأى بنفسه عنها، كما أتت عمليات التهديد العلني باغتيال الرئيس وإهدار دمه وتهديده إن ذهب لجنازة شهداء رفح لتؤكد الوساوس، حيث ترشحت معلومات عن جهات أمنية رفيعة قدمت للرئيس تفاصيل محاولة اغتيال في الجنازة، وتمت مواجهة كل الأطراف بها في جلسة رمضانية امتدت حتى قبيل الفجر، ثم ما انكشف من خلفيات أحداث رفح، حيث تبين أن المخابرات العامة حصلت على معلومات مفصلة عن التخطيط للجريمة قبل وقوعها بأيام وحتى أسماء بعض من سيقومون بها، وبدلاً من أن يقدم رئيس المخابرات العامة المعلومات إلى الجهة التي ترأسه مباشرة: رئاسة الجمهورية، قدمها للمشير طنطاوي، بما يعنى تحقيره لدور الرئيس ومكانته واستخفافه بوجوده أصلا وتجاوزه للقواعد والإجراءات الحاكمة لعمل جهازه، الأمر الذي استدعى عزله في أول وجبة تطهير، ثم تكشف بعد ذلك أن القادة العسكريين لم يتخذوا أي موقف تجاه المعلومات الخطيرة التي وصلتهم، مما أدى إلى استشهاد عدد كبير من الجنود وإصابة آخرين، وبغض النظر عن أسباب هذا الموقف، وهل هو تعمد للتجاهل لإحراج الرئيس الجديد أم أنه استهتار بالمعلومات أم أنه ترهل عسكري وأمنى، فإن الأمر في النهاية كان يكفى ـ عسكريًا ـ للإقالة أو المحاكمة، وقد زاد الطين بلة أنه عقب صدور قرار الرئيس بعزل قائد الشرطة العسكرية اللواء حمدي بدين قام المشير بتكريمه وتعيينه مستشارًا له وهو سلوك أعطى رسالة تحدٍ لقرار الرئيس، أضف إلى ذلك ما تكثفت الأخبار عنه خلال الأسبوع الأخير من دعوات للاحتشاد في نهاية أغسطس من أجل إسقاط رئيس الجمهورية، بما يعنى التخطيط العلني للانقلاب، وقد صرح بعض منسقي هذه الدعوات بأنهم جهزوا "ميليشيات" وتعمدوا استخدام هذا التعبير إعلاميًا، وهو ما يعنى الترتيب لعمليات عنف وإهدار دم واسعة، والأخطر أن هؤلاء المنسقين أفلتت منهم كلمات وعبارات تؤكد أن "الجيش" سيكون معهم في تلك الاضطرابات، وهو ما لم ينفه أي مسؤول عسكري، بل ترشحت معلومات عن أن بعض أعضاء المجلس العسكري يتعاطف فعليًا مع تلك الترتيبات، وهو الأمر الذي فهمه كثيرون على أنه تخطيط للإطاحة بالرئيس مرسى في نهاية أغسطس لفرض الحكم العسكري الصريح تمهيدًا لإعادة إنتاج دولة مبارك بنفس آلياتها وموازينها وأدواتها، مع تغيير الأسماء والأشخاص. في كل الأحوال، المؤكد أن قرارات الرئيس مرسى أتت لصالح مصر، ومسيرة الديمقراطية فيها، وبقدر ما خدمت المسار الديمقراطي ومدنية الدولة بقدر ما خدمت المؤسسة العسكرية وصححت مسارها وضخت الدماء الشابة فيها، وهى قرارات تمهد الطريق فعليًا أمام القوى السياسية لكي تحشد نضالها في الشارع وبين الناس وأمام صندوق الانتخابات، لم يعد هناك خوف من هيمنة عسكرية تفرض وصايتها على إرادة الشعب أو تتلاعب بها، لم يعد هناك قلق من "دولة عميقة" بأذرعها الأمنية والإدارية الخبيرة يمكن أن تتلاعب بصناديق الانتخابات أو تعطل إرادة الأمة في الاختيار، مصر الآن تتجه بقوة وثبات إلى الديمقراطية والدولة المدنية والتداول السلمي للسلطة فعليًا، لم يعد هناك حجة لأحد عندما يتهمش دوره أو يغيب عن المشهد أو يتحجج بالحديث عن الإخوان وهيمنة الإخوان لإخفاء ضعف تواصله مع الناس وفى الممارسة السياسية الجادة، الميدان السياسي الآن مفتوح بكل شفافية، ولم تعد هناك حجة أيضًا للرئيس محمد مرسى بالحديث عن معوقات ومؤامرات من هذا الطرف أو ذاك، وحساب الشعب معه ـ ومع جماعته ـ سيكون عسيرًا إذا عجز عن تحقيق آمال الشعب أو تجاهل أهداف وأشواق ثورة يناير المباركة التي أتت به من السجن إلى كرسي الرئاسة، وتبقى هناك أولوية قصوى الآن تتمثل في سرعة إنجاز الدستور الجديد، دستور الثورة، بما يحقق وضوح الرؤية الكاملة لتوزيع السلطة في الدولة المصرية، وإعادة سلطات التشريع تحديدًا لبرلمان منتخب وحكومة مرشحة من البرلمان الشرعي وليست باختيار الرئيس، وتحديد صلاحيات رئيس الجمهورية ومدة بقائه، الدستور هو معركة الحسم الحقيقية الآن.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.