فقط تم تسجيله في كتب التاريخ ، ذلك الإضراب المفتوح عن الطعام للأسرى الفلسطينين في سجون الإحتلال، والذي حصل عام 1976 م، إنطلق من سجن عسقلان وإستمر لمدة 45 يوما، أملا منهم في تحسن ولو جزء بسيط من حياتهم الإعتقالية، ربما لم يكن الإضراب الأول ولا الأخير ، فقد بدأ إضراب من سجن الرملة عام 1969 م، وهذه السنة عاد الربيع يتفتح في السجون من خلال إضراب الكرامة الذي لم يحصل الأسرى من خلالهِ على مطالبهم لأن عادة العدو لا تتغير "يعد ويخلف"، هذا الإضراب الذي ظننا أنه إنتهي، ولكنه فعليا لم ينتهِ، وبعض الأسرى تجاوزوا المئة يوم مستمرين به. على ما يبدو لي أن التاريخ وحده يتكفل بالإعتناء بهم، أؤلئك الأسرى الذين لم يقترفوا ذنبا أكبر من محاولة إسترداد جزأً من وطنهم الضائع وشرفهم وهو على حافة الإغتصاب ، وطفولة أبنائهم التي أصبحت على حافة الكهولة بغيابهم، حاولوا بأيديهم التي لم تعرف حمل السلاح إلا دفاعا عن الوطن أن يلملموا بقايا الكرامة المبعثرة في أروقة القصور الملكية . نعم حاولوا ، ومن ذا الذي يجرؤ أن يقول أن محاولاتهم باءت بالفشل ؟ أما نحن فلدينا مشاغل أخرى، دونها لن نلبس الياقات ولن نركب السيارات الحديثة ولن نبيع آخر ما تبقى لنا من وطن بجرة قلم في سكرة حضورنا المخجل !. وحده التاريخ من تكفل بإحتضان بطولتكم ، وحده من سيظل محتفظا بذكراكم ، وإن كتبنا كلاما كثيرا عنكم، وامتطينا القوافي ننظم "الأجعار"، واستعرنا الريش والأقلام لرسم ملامحكم التي باتت غير واضحة لذهولها بنا، لا تصدقونا أرجوكم. وإن حملنا الرايات ورقصنا بالشعارات وبُحَت حناجرنا المستعارة في مظاهرات السابع عشر من نيسان، لا تصدقونا، وإبحثوا أين نذهب كل مساء ، إسألوا الحانات والبارات والكازنوهات التي إنتشرت في رام الله وأريحا مرتدية ثوب الحضارة والديمقراطية التي بإسمها شيعنا الأخلاق. آآه يا عملاقة الوطن المسجون في زنزانة، لو يحدثكم الأقزام عن بطولاتهم ، لو تشكي لكم هذه الأرض المقدسة ما يعتليها من آفات، أصبحوا يركلون هذا الوطن بأقدامهم نحو العمالة ، ويتهمون الشرفاء بالفتنة والتحريض ، وإعتقلونا يا رفاق بتهمة حبنا له. أمن أجل حب الوطن نُعتَقَل ؟ لا تصدقونا أرجوكم ... صدقوا عذاباتكم خلف القضبان ،صدقوا أبناء الإنتظار ( أبناءكم )، صدقوا خطيبة الأسير، زوجة الأسير، أم الأسير، إبن الأسير وإبنة الأسير، حبيبة الأسير، صدقوا كرامة الأسيرات، زهرة شباب الأسيرات، بنات الأسيرات، ووالد الأسيرة عندما يأتي المساء ولا يجد زنبقته في الفراش. لا تصدقوا أقلامهم أؤلئك الأدباء وإن رسموا ملامح عذاباتكم بدقة، صدقوا كتبهم التي يصدرونها بإسمائكم ويوقعون إمضاءهم أسفل جرحكم، ويقبضون ثمنكم بشهرتكم أيها الأبطال. لا تصدقوا الأيادي التي تحمل صوركم فتظهر صورهم للعالم قبل صوركم. لا تصدقونا أرجوكم، نحنُ الذين نواصل شبعنا الذي لا ينفد عن الحياة، وأنتم الذين تواصلون جوعكم الذي لا قوت فيه سوى الكرامة، صدقوا الأسير حسن الصفدي الذي واصل إضرابه لليوم الـ 75، والأسير سامر البرق المضرب منذ 105 أيام، والأسير أيمن شروانة (65 يوم) ، والأسير سامر العيساوي ( 34 يوم). هؤلاء أزهر ربيعهم خلف الأسوار والأسلاك الشائكة، ربيعهم الذي لا زال يَسخَر مِن خَريفِ ذبولِنا وعجزنا، يسخر من أيامنا الصدئة والتي تُزهر حقولا من ياسمين فقط عندما يقولون في إحدى الرسائل أنهم بخير لأجلنا. صدقوا سامر البرق الذي تنقل بين السجون الباكستانية والأردنية والأمريكية ليستقر في السجون الإسرائيلية لا يأبه به ملك الأردن وهو الذي يحمل الجنسية الأردنية، ولا نأبه به نحن "شعب الجبارين سابقا والمتجبرين حاليا". لا تصدقونا أرجوكم، صدقوا عائشة السبعينية أم الأسير يحيى التي سبقها الموت قبل أن تصل نظراتها المشتاقة ليحيى. صدقوا الموت الذي تَفوَقت سرعته على سرعة الضوء والصوت، وخرجنا بنتيجة مفادها "أن لا سرعة للنظرات عندما تكون مُثقَلة بأطنان الحنان واللهفة التي لا تقدير لوزنها". أستطيع أن أجزم أن يحيى قَبلَ يد الموت بدلا من تقبيل يد أمه. هل سمعتم عن شفاهٍ تحترفُ تقبيلَ يد الموت!. لا تصدقونا أرجوكم، صدقوا عيون علي حنون التي لم تعرف الضوء يوما، لكنها إستطاعت أن تميز عتمة السجون، صدقوا وجهه الوسيم المُبتسم، وإحساسهُ العالي بكل من هم حوله رغم محاولة العدو كسر النور في قلبه. لا تصدقونا أرجوكم، صدقوا محمد سليمان الذي أثبتَ لنا أنه بصحة جيدة ونحن من تركبنا كل الأمراض والعلل، عندما قرر أن ينضم للإضراب وهو المصاب بالتلاسيميا ويحتاج لوحدات دم بشكل دوري، لكنه امتنع عن أخذ دوائهِ كي يثبت أن للمقاومة روحا حتى في الجسد المُنهك والمنتهك. لا تصدقونا أرجوكم، صدقوا الأسير المرحوم زهير لبادة الذي قتلوهُ وأخرجوا لنا أنفاسهُ الأخيرة كي نحترق بها، ونحن الذين نتوق لإستمرارها بيننا مع أنها تطاردنا عاتبة على صغيرنا قبل كبيرنا. لا تصدقونا أرجوكم، صدقوا محمود كليبي الذي عرفَ كيف يقاوم، وعرفنا مِن إبتسامته المُهربة في الصور أن حياتنا دون أمثالهِ ما هي إلا لوحة رمادية لا حَسم فيها، رَسَمَها مريض على حافة الموت، وبقي محمود في الأسر ليثبت للذين فرطوا وفاوضوا أنهم ليسوا سوى رقم يَسهُل طرحَه من معادلات الكرامة. لا تصدقونا أرجوكم، صدقوا مجدي ومروان أبو فارة " أخوة جمعتهما فكرتان لوطن واحد، إحداهما يقبع في النقب والآخر في رامون، حيث أجسادهما التي تَتابَع عليها موت الأم والأب واحدا تلو الآخر. في البداية، نَسَجَ الموت لمجدي خيوطه التي أحاطت بجسد والدته، ورَبَتَ على كَتفه بدلا منها، وبعد أسبوعين تمادى القَدر في زَفِّ الحرمان نحوهما ليأتي إليهما بخبر وفاة الأب، وبين الأم والأب يتوقف الدهر عاجزا عن تجاوز التفاصيل المُرهِقة. مجدي لا زال يحاول إستحضار وجه أمه وصوت أبيه، لكن نجما هاربا يأخذهما مِنهُ وسط الطريق، تَهرب الأبجدية من ذاكرته، ويُدرك فجأة أنه لَم يَكبُر، وأنهُ لا زالَ على حافة الطفولة التي تقوده دوما إليهما. يَصمت، ولا شيء غير الصمت يُجدي عند الفقدان، يَصمت ويترك البكاء فيما بَعد، وما نَفعُ الكلام! هَل الحروف ستصنَع لَهُ قاربا يَقذِفهُ حيثُ آخر نَظرة، وآخر قُبلَة، وآخر كَلمة! ما أقَلَ الحروفَ حين يَكثر الغِياب! صدقوا مروان الذي أجزم أنه كان بحاجة للبكاء على صَدرِ مجدي والبوح له بِكلمة واحدة فقط " أخي أحتاجُك"، كلمة لن تَستطيع أن توضب الأحزان بِداخله، وتكنِسَ جدران العتمة وكأنها رماد، كلمة تكفلت الصحراء ببعثرتها كالرمال مع أول نسمة. لا تصدقونا أرجوكم، صدقوا حازم النمورة شقيق الأسيرين المحررين أنيس وأكرم النمورة، والذي تبرع بكليته لشقيقه أنيس الذي عانى من الإهمال الطبي على مدى 12 عام في سجون الإحتلال. صدقوا الموت الذي تَرَبع مكان كليته وأودى به وبحلمه في رؤية أخيه بصحة جيدة. لا تصدقونا أرجوكم، صدقوا طفولة محمد برقان الذي إنحنت لشجاعتها كلماتي، وظلت تكبر معها حتى شاخت وهو لا زال يَكبُر ويَكبُر خلف القضبان. حروفي غير قادرة على وصف مشاكساتِه الطفولية الجميلة المُقاوِمَة والذكية، والتي لو وُجدت معنا في هذه الأيام لكانت بمئة رجل عاقل من أؤلئك الذين أخذ بهم العقل إلى التفريط بفلسطين حتى آخر سكرة من جلسات مفاوضاتهم النتنة. برقان الذي لم ينتظر عُمرا آخرا ليكبُر، فهو يعلم أن الموت الحقيقي هو الذي نُقدم نحوهُ ويصفنا الجبناء بالتهور لجرأتنا عليه، وهو الذي أدرك أن الأبطال الحقيقيين لا يأتي على ذِكرهم أحد، لذا قرر أن يكون ندا قبل أن يستشهد. هو الذي عرف "أن للأوطان سرا ليس يعرفهُ أحد"، وقررت طفولته وهو في سن الخامسة عشرة أخذ M16 عنوةً من جيب عسكري صهيوني ليصنع بها مجده بعيدا عن هزائمنا، وليصعد نحو إحترامنا بعيدا عن تنازلاتهم. صدقوا برقان الذي كان بإنتظار صدور تصريح لوالده كي يزوره بعد غياب أربع سنوات، لكن التصاريح أيضا كأي شيء مُخيب للآمال تأتي متأخرة عندما نطلبها، فقد صدر بعدما أطفأ الموت روح والده كفراشة ضجرت من برد الغياب وأخذت تحاول الإقتراب من نور ولدها فاحترقت. لا تصدقونا أرجوكم، صدقوا باسم الخندقجي عندما يمشي بخفة على سطح القصيدة و"ينثُرُ في النثر جسدهِ" ليعزف لنا على "ناي الفراشة" كلمات وطن تقول له " إخلَع عنكَ التردد، وتقدم بي صوب نفسك، فالوقتُ نارٌ وقودها حطب الرحيل". لا تصدقونا أرجوكم، صدقوا كلمات محمد البرش الذي بعث بها لأمهِ مع المحامي محذرا إياه :" لا تقل لأمي بأنني صرتُ أعمى". صدقوا قلمي الذي يَكتب كلماته كل يوم ويبكي كل يوم. عُذرا محمد، عندما يُصبح بيدي ما هو أكثر جدوى مِن النُصوص، سأقدمهُ دون تردد لأجل عينيك الجميلتين. لا تصدقونا أرجوكم، صدقوا لينا جربوني تلك الصبية التي لم تعرف من الحياة زينتها، وغاب عن جبينها الجميل همسات أنامل والدها وهو يمسح عن وجهها فشله الدائم في ترجمة ملامحها النضالية، صدقوا أنوثتها التي لم تستطع أن تكون بها كأي فتاه عادية، بفرح سخيف وحزن منتهي الصلاحية، تركت بعدها أميرات غبيات لم يدركنّ بعد أن المرأة تبدو في سلاحها أجمل وأجمل وأجمل، وبقيت هي عبدة لقناعاتها مُكتفية بقوت وطنيتها، صدقوا جراحها والدم النازف من شفتيها، وآثار القيد على قدميها، وتأكدوا أنها بقيت هي والنصر على موعد. لا تصدقونا أرجوكم، صدقوا الحقيقة عندما تُدفَن وتصبح خطرا على أمن الدولة، والقلم عندما يُصبح أثره في الجُبناء كوقع البُندقية تصديقا لمن قال أن "للقلمِ والبندقية فوهة واحدة"، صدقوا الصحفي عندما تبدأ كلماته بلف حبل المشنقة حول قذارة حكامهِ، ويبدأون هم بتلفيق التُهم لِفكرهِ وقطع عنقه الفضولي، وفقء عيناه اللتان شاهدتا أكثر مما يجب. وليد خالد، أمين أبو وردة، عامر أبو عرفة، كل هؤلاء الصحفيين حاولَ العدو وأذنابه التضييق عليهم كي يجبرهم على السير نحو أكثر الطرقات إختصارا، شابت الحقيقة في عمر غيابهم عن الميدان وتغيبها في ملفات سرية وُجد أن 85% منها - حسب إحصائية - تم تلفيقها من قِبل السلطة في الضفة الغربية. تُرى كم صار عمر الحقيقة في الغياب الآن؟ لا تصدقونا أرجوكم، صدقوا جسد زكريا عيسى الذي نهشه السرطان، تماما كما نَهش جسد أبي، ذلك الأسير الذي تعرفتُ على ألمهِ، فقد سبق وأوجعني مرضه، وصرتُ أسيرة للموت الذي يبعثهُ لي فوجدتُ في رحيله ما يشبه ألم رحيل أب عن صغيرتِه. صدقوا الصدور المفخخة بنبض حضورهم، والعيون العمياء إلا من صورهم، واللوحات الفارغة إلا من طيفهم، والألحان الصماء إلا من أصواتهم، ولا تصدقوا أن بإمكاننا أن نجد صبرا لا ينفذ مع تجدد ذكراهم فينا. لا تصدقونا أرجوكم .. صدقوا العيد عندما يكون "كامل النقصان" دون 4500أسير. لا أدري ماذا أفعل! إحتقرت الكتابة وهي قلبي الوحيد الذي ينبض لكم ولأجلكم، وإستهنت بتلك الإعتصامات السلمية وهي على قلة من فيها إلا أنها الوسيلة الوحيدة ليُعَبِر ذووكم عن توقهم إليكم، ورفعت دعواتي للسماء وأنتم ذنوبنا التي أخشى أن لا تُغتفر، إحتفظتُ بشوقي لإختطاف جندي جديد يخلصكم مما أنتم فيه، وكنتُ سابقا قد كتبتُ رغبات شعبي في إحدى مقالاتي للمقاومة "بالخط العريض"، وما وجدتُ أحدا يرد. سأواصل الكتابة، فبالكتابة فقط أبعَثُ مِن مَوتي إلى حياتكم الجائعة للحرية، قلبي يَخشع أمام ذاكرة الأسير المُحاطة بالأسلاك الشائكة، تلكَ التي يَصلبونها لتنسى نوم المدينة وحراسها، وعندما يُحرق الجَسد بأعقاب السجائر ترجو العيون غفوة فيطوقون نعاسها بالسلاسل كي تسهر أكثر، وكلهم أمل أن ينزف القلب إعترافا فيخطون به إنتصارهم، وما علموا أن دم الأسير ليس سائلا أحمرا، بل مدن ننتمي لها. وكما دوما، خاتمة نصوصي ما هي إلا بداية الإنتماء لكم، وأنا التي لا زلت أهذي "الأسرى دولة تستحق أن نُعلن لها الولاء". مجدي ومروان أبو فارة، محمد سليمان، أكرم القواسمي، علي حنون، حسن سلامة، محمد برقان، محمود كليبي، باسم خندقجي، زهير لبادة، محمد براش، حسن الصفدي، سامر البرق، أيمن شراونة، سامر عيساوي، وليد خالد، لينا جربوني و و و و ". طَوَقتني هذهِ الأسماء، طوَقتني بسلاسِل مِن كَرامَة. تَعلمَت البقاءَ مِنَ الفَناء، ماتَت لتخضرَ بموتها كرامَتنا. لا تصدقونـــــــــا أرجوكـــم... صدقوا الأسير حين ينتمي للظلام لأجل شعب يعشق الضوء.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.