حالة من التشويش وعدم وضوح الرؤية تسود وزارة الصحة الفلسطينية، وتحديدا في دائرة "شراء الخدمة"، وهي الدائرة المختصة بالتحويلات الطبية، بعد القرار "الشفهي" الذي وصلهم بوقف إرسال المرضى الفلسطينيين إلى المستشفيات الإسرائيلية، ردا على اقتطاع حكومة الاحتلال لملايين الشواكل التي كانت تذهب للأسرى وأهالي الشهداء.
مصادر خاصة لـ "فلسطين الآن" رجحت أن الأمر لم يكن مخططا له بالصورة الصحيحة والكاملة، بل جاء "ارتجاليا" من خلال دعوة وجهها بعض أعضاء المجلس الثوري لحركة فتح خلال اجتماعاتهم الأخيرة في محاولة للرد على استقطاع أموال المقاصة، وتبنتها جهات متنفذة في وزارة الصحة، وخرجت بها إلى الإعلام، وتدريجيا تحول الموضوع إلى واقع، وضع الوزارة نفسها في مأزق، "كمن بلع منجلا".
أول من خرج إلى الإعلام متحدثا عن ضرورة وقف التحويلات كان الناطق باسم وزارة الصحة أسامة النجار في الفترة ما بين 25-28 آذار الماضي، حينها أوضح أن القرار صدر من أعلى المستويات السياسية في السلطة الفلسطينية وكان يقصد رئيس السلطة محمود عباس.
ونُقل عن النجار قوله إن "قرار وقف التحويلات جاء لأسباب سياسية ومالية، نتيجة التلاعب الإسرائيلي بفواتير التحويلات، وحسم أموال المقاصة في مخالفة واضحة لكل الاتفاقيات. كانت هناك دراسات سابقة لوقف التحويلات إلى أن تم اتخاذ القرار، الذي جاء لوقف وضبط الأموال التي تذهب إلى الجانب الإسرائيلي، إذ إن قيمة المقاصة لفواتير التحويلات الطبية الفلسطينية تعد الأعلى في أموال المقاصة، وبالإمكان البحث عن بدائل طبية في الأردن، أو دول عربية أخرى ضمن محاولات الضغط على إسرائيل".
وأكد النجار التحويلات الطبية لإسرائيل في عام 2018 مليار و41 مليون شيكل، وتبلغ قيمة التحويلات الطبية الفلسطينية إلى الجانب الإسرائيلي أكثر من 100 مليون دولار سنويًا، بمعدل شهري يصل إلى نحو 9 ملايين دولار شهريا.
لا يوجد قرار مكتوب
لكن المصادر التي تواصلنا معها، أكدت عدم وصول أي قرار مكتوب إلى دائرة شراء الخدمة في وزارة الصحة، وقالت "إلى الآن ليس هناك كتاب صادر عن الوزير السابق جواد عواد أو الوزيرة الجديدة مي كيلة يبلغ فيه رئيسة الدائرة أميرة الهندي أو أيا من أفراد طاقمها بوقف التحويلات لإسرائيل أو بنقلها مثلا إلى دول عربية بعينها".
وتابعت المصادر "إن كان هناك قرار مكتوب، فالأصل أن يصل أولا إلى هذه الدائرة المسئولة عن التحويلات، لكنهم سمعوا به كغيرهم من الإعلام، تماما كما يسمعون اليوم عن إمكانية نقل الملف إلى الأردن أو مصر أو حتى تركيا. أؤكد لكم ليس هناك قرار مكتوب يدعم هذا التوجه".
وفي سؤال حول آلية عمل الدائرة في الوقت الراهن، أكدت المصادر أن القرار شفوي، وبناء عليه توقفت الدائرة عن تحويل ملفات المرضى إلى مستشفيات الداخل، لكن -وفق المصادر-ليس لديها بعد أي قرار بشأن المرضى الذين تقدموا بطلبات للحصول على تحويلات، فلم تصل بعد التعليمات بإمكانية التحويل لمكان أخر، وهذا هو سبب التشويش وعدم الوضوح الذي تعيشه الوزارة عامة، ودائرة شراء الخدمة خاصة.
وكان رئيس وزراء رام الله محمد اشتية، قد صرح خلال جلسة مجلس الوزراء، الاثنين 22-4-2019، في رام الله، أن الحكومة أرسلت وفداً للأردن ومصر لبدء إرسال التحويلات الطبية إلى الدول العربية بدلا من المستشفيات الإسرائيلية.
قائمة خاصة جدا
كما كشفت المصادر أنه جرى انتزاع موافقة من الجهات العليا في الوزارة على وجود "قائمة خاصة جدا" من المواطنين المرضى يمكنهم استكمال علاجهم في مستشفيات إسرائيل، نظرا لحساسية وضعهم الصحي، وصعوبة نقل ملفهم الطبي إلى مكان أخر.
وهذا يؤكد ما صرح به النجار أن قرار وقف التحويلات لا يشمل المرضى ممن لهم ملفات وتحويلات سابقة قبل صدوره، "فالأمر معقد للغاية، وهناك لجان تدرس كل ملف لوحده، لتقرر من يحق له استكمال العلاج في إسرائيل، ومن الذي يمكن أن تقوم مؤسسة طبية فلسطينية بهذه المهمة".
وتابعت المصادر "هناك نحو 12000 ألف تحويلة صدرت خلال أقل من عام. ونحو 40% من الحالات بحاجة لاستكمال العلاج. لذلك فالأمر صعب ومتعب ومعقد، وقد تتدخل به جهات عليا لصالح مريض دون أخر. ليس هذا وحسب، بل أن استمرار التحويلات لإسرائيل يصطدم بجدار صلب من الرفض القاطع من بعض الجهات السياسية بالسلطة للعودة له تحت أي مبرر كان".
لذلك -والحديث للمصادر-تم الحصول على موافقة على "قائمة خاصة جدا"، من الحالات المرضية المعقدة والحساسة وتحديدا تلك التي كلفت السلطة الفلسطينية مبالغ مالية طائلة ويلزمها العودة لمتابعة العلاج، مثل زراعة النخاع وجراحة الدماغ والأعصاب الدقيقة، وجراحات القلب المعقدة. وسيتم اعتماد هذه القائمة بتوقيع مباشر من وزيرة الصحة.
لم تنتهي القصة هنا، فالحديث يدور في الوزارة عن تغييرات جذرية في دائرة شراء الخدمة، قد تطال أعلى المناصب فيها، فهم "كما تقول المصادر" من المحسوبين على الوزير السابق جواد عواد، بل أن البعض يصنفهم أنهم "من جماعة الحمد الله"، والمقصود هو رئيس الوزراء السابق رامي الحمد الله، الذي تعرض في أخر أيامه لهجوم غير مسبوق من قيادات في مركزية فتح ومجلسها الثوري، حتى اضطر إلى تقديم استقالته.
ملايين الدولارات
وتنفق السلطة الفلسطينية نحو مائة مليون دولار سنويا على علاج المرضى في مستشفيات إسرائيل، التي كانت تخصمها من فاتورة المقاصة، دون أي رقابة أو مراجعة للأسعار من الفلسطينيين، حيث تشير مصادر مطلعة إلى أن أسعار الخدمة الطبية في إسرائيل تزيد بمقدار الضعف أو أكثر عنها في المستشفيات المحلية.
وهذا ما يبدو جليا من خلال مناشدة مدير عام مستشفى هداسا الإسرائيلي في القدس البروفيسور "زئيف روتنشتاين"، رئيس السلطة محمود عباس بعدم وقت التحويلات الطبية إلى المستشفيات الإسرائيلية.
وكشف "روتنشتاين" أن دخل مستشفى هداسا الذي يديره يبلغ أكثر من مئة مليون شيقل جراء تحويلات وزارة الصحة الفلسطينية، والتي توقفت مؤخراً.
وبحسب تقرير لصحيفة "يديعوت أحرنوت" العبرية، فإن المستشفيات الإسرائيلية تتخوف من دخول المستشفيات التركية على خط التحويلات الطبية الفلسطينية بحكم قدرتها على إجراء العمليات الجراحية وبتكلفة أقل بكثير مما يدفعه الفلسطينيون للمستشفيات الإسرائيلية.
وأشارت الصحيفة بأن أرباح المستشفيات الإسرائيلية ستشهد تراجعاً كبيراً في حال أوقفت وزارة الصحة الفلسطينية تحويل المرضى إلى المستشفيات الإسرائيلية.
وبلغ العدد الكلي لتحويلات شراء الخدمة من خارج مرافق وزارة الصحة 94.939 تحويلة، بزيادة مقدارها 3.3% عن العام 2016؛ وبلغت الكلفة الإجمالية لجميع التحويلات 431 مليون شيقلاً.
وعن شراء الخدمة من المستشفيات الخارجية (خارج فلسطين): فهي تشمل المستشفيات في كل من جمهورية مصر والمملكة الأردنية، وكذلك المستشفيات الموجودة داخل الخط الأخضر؛ حيث تم إعطاء 17.602 تحويلة، وهو ما نسبته 18.5% من مجموع تحويلات وزارة الصحة في العام 2017، وبتكلفة إجمالية بلغت 124 مليون شيقلاً، وتعادل ما نسبته 33% من إجمالي تكلفة شراء الخدمة.
حصة الأسد كانت للتحويلات داخل الخط الأخضر، إذ بلغت 16.269 تحويلة؛ أي 17% من مجموع حالات شراء الخدمة، بواقع 12.121 حالة من الضفة الغربية، وهو ما نسبته 16.3% من تحويلات الضفة الغربية و 4.148 تحويلة من قطاع غزة؛ أي 20.2% من تحويلات قطاع غزة. وبلغت تكلفة التحويلات إلى داخل الخط الأخضر 193 مليون شيقلاً، أي 32.3% من مجموع تكلفة العلاج خارج وزارة الصحة؛ وبلغ متوسط تكلفة التحويلة الواحدة 8.558 شيقلًا.