في البداية تظن أن الأمر مزحة، وأن ما يتم تداوله على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي ليس إلا فبركاتٍ تستهدف جمع الإعجابات. ثم تطالعك صورة أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، صائب عريقات، يحمل شيئاً يؤكد أن الكتاب الذي يتم الحديث عنه فعلاً موجود، وليس مجرد فكرة من بنات أفكار الناشطين على مواقع التواصل. هذا هو فعلاً موجود، كتاب "قدوتنا رئيسنا"، تزيّنه صورة للرئيس الفلسطيني محمود عباس، وفي داخله مقتطفات من أقوال أبو مازن التي يريد تعميمها على الجمهور الفلسطيني، باعتبارها الخط العام الذي يجب أن تسير عليه القضية الفلسطينية. هذا أيضاً ليس بدعةً من مواقع التواصل، فالكتاب الذي أطلقته وزارتا التربية والثقافة الفلسطينيتان سيكون مدرجاً في البرنامج التدريسي لبعض المراحل التدريسية.
عند هذا الحد، الأمر لم يعد مزحة، بل يبدو أنه توجه جديد لدى القيادة الفلسطينية، وربما في إطار التحضير لـ"فلسطين الجديدة" التي يروجها جاريد كوشنير، توجه إلى صناعة ديكتاتورية فلسطينية، هي ما كانت تنقص إلى اليوم في المشهد العربي، وإدخال مفهوم تقديس الزعامة إلى المسرح السياسي الفلسطيني، وتكريسه لدى العامة، وليس فقط لدى طائفة المريدين. وربما تكون الخطوة التالية للرئيس الفلسطيني نصب تماثيل في شوارع الضفة الغربية ونواصيها وساحاتها، أو ما تبقى له منها بعد القضم الإسرائيلي المستمر.
سلوك أبو مازن هذا لا يمكن إلا أن يحيل على ديكتاتوريين كبار، على غرار الزعيم الكوري الشمالي، كيم إيل سونغ، وتعاليمه "الملهمة"، والزعيم الليبي معمر القذافي وكتابه الأخضر، وحافظ الأسد وصدام حسين وخطهما "النهج السليم للأمة". قد يكون من الأفضل الإبقاء على حسن الظن، وعدم التفكير في أن عباس يريد أن يتحول إلى واحدٍ من هؤلاء، إضافة إلى أنه لا يملك أياً من المؤهلات لكي يكون كذلك، فلا هو رئيس ولا هو زعيم، هو صنيعة مجموعة من الظروف والتفاهمات الداخلية والإقليمية والدولية، والتي جاءت به لخلافة الزعيم الراحل ياسر عرفات. كما أن أبو مازن لا يملك من الكاريزما القيادية التي تخوّله أن يتبوأ مثل هذه المكانة إلى جانب مثل هؤلاء الديكتاتوريين الكبار.
إضافة إلى ذلك، هل من الممكن أن تكون خطابات أبو مازن "قدوة" للفلسطينيين، فإذا استثنينا الشتائم الذي كان يكيلها لخصومه في الداخل والخارج، والتي رصدتها الكاميرات المرافقة له في أكثر من مناسبة، فهل أحاديث عباس عن تفاصيل المواجهة مع إسرائيل صالحة لأن تكون "قدوة" للسير عليها فلسطينياً. "التنسيق الأمني المقدس" على سبيل المثال واحد من التصريحات الأساسية للرئيس، والتي يسيّر على هديها السلطة الفلسطينية، ويريد أن يرسّخها نهجاً أبدياً. الحياة كمفاوضات أيضاً من ضمن الأفكار التي يريد أبو مازن ترويجها، وتكريسها خطاً فلسطينياً أبدياً، مع إسقاط أي فكرة من أفكار المقاومة، مسلحة كانت أو سلمية، فبالنسبة إلى أبو مازن، هذه المسائل ليست إلا تضييعاً للوقت. فكرتان أساسيتان من مجموعة كبيرة من الأفكار التي يريد أبو مازن الترويج لها بين الجيل الفلسطيني الشاب.
اللافت أن كتاب "القدوة" هذا يصدر في ظل "كارثة" تمر بها القضية الفلسطينية، وتحالف دولي وإقليمي، ممتد من الولايات المتحدة إلى الخليج العربي، يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر ما تسمى "صفقة القرن" وتسريباتها المستمرة والمتناقضة. وكأن أبو مازن والسلطة لا يريان ما يكفي من الكوارث على القضية، حتى يأتيا بمثل هذا الكتاب الكارثي الذي من شأنه أن يدمر ما تبقى من مشروع نضالي لدى الفلسطينيين. كتاب يؤشّر إلى تواطؤ ضمني بين السلطة والقائمين على الصفقة المشؤومة، على الرغم من الإعلانات المتتالية للمسؤولين الفلسطينيين، وعباس في مقدمتهم، عن رفض الخطة الأميركية. فإذا كان الرفض ومخطط المواجهة للصفقة قائمين على أفكار محمود عباس واقتباساته سالفة الذكر، واعتبارها "القدوة" التي يجيب السير عليه، فعلى القضية الفلسطينية السلام.